11/19/2013 -
 
لم يبق للرجل الملقب بـ (أمير الظلام) إلا دقّ رأسه في الحائط ، بعد أن صعقه الخبر الذي تلقّاه للتو ، و هو مقتل أحد أكفأ رجاله على يد مقاوم فلسطيني .

كان (أمير الظلام) أو (الرجل الغامض) أو (الرجل الظل) كما تسميه الصحف ، يتربع على رأس جهاز (الشاباك) ، ومن يحتل هذا المنصب يكون لديه صلاحيات واسعة ، و منها اتخاذه للقرارات بمفرده ، و عادة ما يكون رأيه في القضايا الأمنية ملزماً لحكومته ، و لكن من جانب آخر فإنه يتحمّل مسؤولية كلّ ما يحدث في الجهاز الذي يترأسه ، و كل خطأ يرتكبه أي من رجاله فإنه يتحمل المسؤولية الكاملة عنه .
و في ذلك الصباح ، لم يكن أمير الظلام قد تناول قهوته بعد ، عندما دق هاتفه الخاص و حمل له نبأ مقتل أحد أكفأ رجاله .و لم يكفِ سيل السباب و الشتائم التي أطلقها في الهواء لكي تهدّئ من روعه ، لأنه كان يعرِف معنى أن يقتَل أحد رجاله بتلك الصورة التي حدثت ، و يعلم أن قيادته السياسية ستحمّله المسؤولية المباشرة عن ذلك و ربما سيفقد منصبه و ينهار مستقبله المهني في الجهاز الذي حقّق نجاحات كبيرة في عهده ضد المقاومين الفلسطينيين .و كان عليه وسط همومه و غضبه أن يتصل برئيس وزرائه بواسطة الخط الساخن بينهما فوراً و كذلك إبلاغ وزير الحرب و قائد الجيش و قادة فروع أجهزة المخابرات الأخرى ، كجهاز الموساد المناط به العمليات الخارجية .ولم يكن يدرك بعد و هو يقوم بمهمة الإبلاغ ، كيف حدثت بالضبط عملية قتل ضابطه ، و لم يكن يعرف بالطبع أن عملية القتل تقرّرت في ذلك اليوم الذي عاد فيه عامل فلسطيني إلى منزله يحمل في قلبه و عقله مأساة شعبه .
حسن و ابنته ميرفت
عاد الشاب حسن أبو شعيرة إلى بيته في مخيم (بيت جبرين) للاجئين الفلسطينيين في مدخل مدينة بيت لحم الشمالي و هو فرح ، رغم أنه كان منهكاً بسبب عمله الشاق في أحد الفنادق .
كان حسن يرى و يسمع و يشعر بمعاناة أهله في المخيم الذي ولد فيه عام 1969م و في المدن و القرى المجاورة ، و نشأ و هو يرى جرائم المحتلين الصهاينة فانضمّ إلى المقاومة عام 1985م و نتيجة لذلك اعتقله المحتلون
و زاده السجن إصراراً على مواصلة النضال ، فعندما خرج منه شارك مجموعات المقاومة في مخيمه في الانتفاضة الفلسطينية الكبرى (1987 - 1992م) و تكرّرت تجربة السجن معه ، و في انتفاضة الأقصى التي بدأها الشعب الفلسطيني في 28/9/2002م ، كان حسن ضمن مجموعات العمل العسكري السري ، و شاهد كيف ارتكب المحتلون الصهاينة جرائم قتل للأطفال و الشيوخ و الرجال بدم بارد ، مثلما حدث مع الشهيد الطفل محمد الدرة الذي قتل و هو
يحاول الاحتماء بحضن أبيه ، والطفل مؤيّد الجواريش الذي قتله قناص صهيوني بينما كان يحمل حقيبته المدرسية على ظهره فتناثر مخه على دفاتره المدرسية .
وعندما عاد حسن مساء ذلك اليوم إلى منزله ، حدثته ابنته ميرفت كيف سقط مؤيّد بين أيدي أصدقائه الأطفال في نهاية يوم دوام مدرسي ، و نقل مصوّروا وكالات الأنباء العالمية صور مؤيّد إلى أنحاء العالم ، و لكن هذا العالم بقي نائماً عن مأساة الفلسطينيين .ولم يحرّك هذا العالم ساكناً ، حتى عندما خرج الطبيب الألماني فيشر من منزله ليلاً ليسعف مصابين فلسطينيين فقصفته المروحية العسكرية الصهيونية أمام منزله ولم يعد لأطفاله وأبنائه الذين كانوا ينتظرونه، ومثلهما الكثير من الشهداء .ومن الصعب على حسن أو على غيره من الفلسطينيين أن ينسوا ليلة القصف المخيفة تلك ، التي ذهب فيها الدكتور (فيشر) إلى غير عودة ، كانت مروحيات الاحتلال تطلق النار على كل شيء متحرك .وفي الصباح ، ذهب حسن إلى منزل الدكتور فيشر ، مثلما فعل المئات من المواطنين ، كانت رائحة الدم المختلط مع التراب تزكم الأنوف ، في المكان الذي سقط فيه الدكتور فيشر بينما كانت إحدى القطط ، غير عابئة بحركة المواطنين ، تضع قطعة صغيرة من اللحم في فمها و تركض بها إلى الحقول المجاورة لتنضم إلى قطط أخرى كانت تفتّش بحاسة الشم عن قطع أخرى تناثرت من جسد الطبيب الذي قطّعته القذيفة الصهيونية إلى أشلاء يصعب حصرها . وبعد أن قام بواجب العزاء ، خرج حسن من المنزل ، و على الدرج سمع إحدى النساء تقول لامرأة أخرى :
هذا قدرنا ؟ ماذا نفعل ؟ يجب أن نقبل به .. !
ولم يقبل حسن على نفسه أن يجلس يندب قدره و حظّه و هو يرى جبروت الاحتلال الصهيوني بينما أشقاؤه العرب و المسلمون و العالم كله لا يحرّك ساكناً ، ففكّر بكيفية مواجهة المحتلين المدجّجين بالأسلحة الحديثة و التكنولوجيا خصوصاً تلك التي تأتيهم من أمريكا ، و رغم أنه أدرك صعوبة ذلك إلا أنه قرّر أن يفعل شيئاً ، و قال لنفسه : "لن أكون بأقل من الشهداء غيري الذين قاوموا ظلم الاحتلال طوال عشرات الأعوام" .وهداه تفكيره إلى خطة بدت جنونية و هدف منها ليس فقط المشاركة في المقاومة بل الانتصار على الجيش الصهيوني الذي يقول عنه الصهاينة إنه جيش لا يقهر ، و أكثر من هذا قرّر الانتصار على المخابرات الصهيونية التي تعدّ من أقوى مخابرات العالم ؟ فهل سينتصر فعلاً ؟ .
كما قلنا عاد حسن فرحاً إلى المخيم حيث يسكن و دخل منزله ، و رغم أن زوجته أدركت بأنه فرحٌ إلا أنها أبدت استغرابها عندما رأته ساهماً و هو يحتضن ابنته ميرفت بعد أن سألها عن مدرستها ، و لم تشأ زوجته أن تضايقه
بإلحاحها و أسئلتها فتركته على سجيّته و قالت في نفسها :
أمير الظلامقالت ميرفت لأبيها :
اليوم لم نكمل الدراسة بعد أن قذفنا جنود الاحتلال بقنابل الغاز المدمع و أصابوا العشرات من التلميذات بالاختناق .

ترك حسن ابنته لتذاكر دروسها ، و بعد أن أخذ له مكاناً في المنزل ، بدأ يستعرض ما جرى خلال الأيام الماضية و يكاد لا يصدّق نفسه بأنه كسب ثقة رجل المخابرات الصهيوني البارز مودي .
وتساءل حسن فجأة "هل يمكن فعلاً أن يكون مودي بلع الطعم" ؟؟ ... و سرّ تساؤل حسن هو معرفته الأكيدة لشخصية الضابط الصهيوني مودي .

الضابط مودي
كان (يهودا إدري) الملقب مودي من أذكى ضباط المخابرات الصهيونية (جهاز لأمن العام) و المسمّى (الشاباك) و هذا الجهاز مختص بملاحقة الفدائيين الفلسطينيين و اغتيالهم و اعتقالهم و التحقيق معهم ، و على يد محقّقي هذا الجهاز سقط العشرات من الشهداء الفلسطينيين في زنازين المحتلين التي يمارس فيها أبشع أنواع التعذيب .
ونظراً لذكائه و مثابرته أصبح برتبة (لفتنانت كولونيل) أي عقيد في شعبة الاستخبارات العسكرية ، و انتقل إلى الخدمة في جهاز (الشاباك) بعد اندلاع انتفاضة الأقصى للمساعدة في جمع المعلومات الاستخبارية و تجنيد و تشغيل العملاء و تنفيذ اغتيالات ضد الكوادر الفلسطينية .
ولم يكن اختيار (إدري) الذي أصبح اسمه الكودي بعد انتقاله إلى (الشاباك) مودي عفوياً لمهمة قيادة ملف (504) المناط به تجنيد العملاء و المسؤولية عن تصفية كوادر الانتفاضة ، فهو يجيد اللغة العربية و يتحدّثها بطلاقة و خبير في العادات و التقاليد العربية ، و كان من أبرز المحاضرين في دورات إعداد وحدات (المستعربين) وضباط الاستخبارات، ووحدات المستعربين هي ما يسمّيها الفلسطينيون وحدات الموت، حيث يقوم أفرادها من الكوماندوز بالتخفّي بالزي العربي ومهاجمة الأفراد و المواطنين الذين يتقرّر تصفيتهم أو اعتقالهم من قبل أجهزة مخابرات الاحتلال . ومنذ تسلّم عمله الجديد في (الشاباك) بدأ مودي عمله بهمة و نشاط و استطاع التخطيط لقتل حسين عبيات قائد كتائب الأقصى التي انتمى لها حسن
أبو شعيرة ، وذلك بقصف سيارته بالصواريخ مما أدّى إلى استشهاده و ستشهاد سيدتين هما : عزيزة دنون و رحمة شاهين .
ورغم أن عملية قتل القائد حسين عبيات الذي أرّق جنود الاحتلال و المستوطنين بعملياته الجريئة ، لم تستلزم من مودي كثيراً من العمل الاستخباري، بسبب عدم أخذ حسين الاحتياطات اللازمة في التخفّي ، واعتماد مودي ورؤسائه في الشاباك على التفوّق التكنولوجي والطائرات الأمريكية المزوّدة بأحدث الأجهزة، إلا أن قتل حسين عبيات، أثار سعادة
كبيرة لدى قادة إسرائيل، ولم يخفِ هؤلاء فرحهم بقتل عبيات ، وعبّر عن ذلك الفرح ، بشكلٍ علني رئيس دولتهم (موسى قصاب) ورئيس حكومتهم الجنرال باراك وقائد الجيش الجنرال موفاز وسلسلة طويلة من المسؤولين الصهاينة . وفي أحد مكاتب الشاباك كان مودي يشرب مع زملائه و على رأسهم أمير الظلام الغامض قائد الشاباك نخب الانتصار بمناسبة قتل حسين عبيات .و تمكن مودي أيضاً من التخطيط لاغتيال الشهيد يوسف أبو صوي و هو أحد كوادر انتفاضة الأقصى البارزين ، الذي كان يمارس نشاطه بسرية تامة و لا يظهر كثيراً بشكلٍ علني ، و لكنه لم يستطع مقاومة الذهاب إلى منزل
والده لتناول إفطار رمضان ، و وصل إلى منزل والده و كان يظن أنه نجح بذلك دون أن ترصده عيون مودي و لم يعرف بخطئه إلا قبل دقائق من أذان المغرب ، فعندما نزل يوسف إلى أمام المنزل ، كانت سيارة تتقدّم منه بسرعة يسبقها إطلاق عيارات نارية من قناصة محترفين باتجاهه ، و تغطّي عليها مئات الطلقات النارية التي انطلقت من الرشاشات الثقيلة من مواقع جيش الاحتلال على التلال القريبة من المستوطنات . و سقط يوسف شهيداً و جسده مطرّزاً برصاص الحقد . ولكن رغم هذا النجاح إلا أن الانتفاضة كانت تسير بخطى واثقة و العمليات الفدائية مستمرة ، وكان على مودي أن يحاول اختراق مجموعات المقاومة و لهذا ذهب إلى حسن بعد أن درس ملفّه بالطبع ، و عرف أنه كان نشيطاً في العمل الفدائي ثم ها هو يراه مبتعداً عن العمل الفدائي و يعمل عملاً شاقاً في فندق و لا بد أنه بحاجة للنقود .
قال مودي لحسن :
كما تعلم فإننا نعرف كل شيء عنك : عندما عملت في السابق مع(المخرّبين) ، تمكّنا من القبض عليك و سجنك أكثر من مرة .. !
فأجابه حسن :
ما دمتم تعرفون كلّ شيء ، فإنّكم لا بد تعرفون أنني تركت كلّ شيء و أهتم فقط بتوفير لقمة الخبز لأبنائي في هذه الظروف القاسية .
ردّ عليه مودي :
قلت لك نعرف كلّ شيء عنك ، و لهذا نريدك أن تساعدنا في القبض على (المخرّبين) .
أجابه حسن بلهجة حازمة و واثقة :
لقد تركت العمل المقاوم و لا أعرف أي شيء ، و لا أستطيع مساعدة أحد سواء كنتم أنتم أو غيركم .
قال مودي بلهجة تهديد :
لك زوجة و أبناء ينتظرون عودتك كلّ يوم ، و إذا لم تعمل معنا ، فأنت تعرف بأننا نستطع قتل زوجتك و أطفالك ، مثلما فعلنا ذلك كثيراً ، فاعمل معنا أحسن لك ..!
وتراجع مودي عن لهجته السابقة و قال بتودّد :
.. و إذا عملت معنا لن نبخل عليك ، و بدلاً من أن تفقد أطفالك ، عطيك مالاً لتصرف عليهم ..!
وتكرّرت الضغوط من مودي على حسن الذي بدا له عرض مودي مفاجأة محزنة له ، إلا أنه فكّر أن يجعل الأمر مختلفاً و يقلب السحر على الساحر ..!وبعد أشهر من مجاراة مودي و إيهامه بأنه يعمل معه ، قال له مودي : يا حسن أنت من أفضل عملائنا ، و أثبت إخلاصك و نرجو أن تستمر بالعمل معنا بهمة عالية و نحن لن نبخل عليك بأيّ شيء تطلبه . وكان ذلك يعني أن حسن استطاع أن يكسب ثقة مودي ، و أن هذا لا يشكّ في حسن ، لذلك كان فرحاً في ذلك المساء عندما عاد إلى منزله .
رفاق حسن
كان حسن يعرف أن للعقيد مودي عيون من العملاء ترصده لتنقل تحرّكاته إلى مودي فضاعف عمليات التمويه بعد أن تلقّى عرض الخيانة .فعندما يعود إلى منزله ينزل من السيارة على بعد مائة متر من المكان لصحيح و يسير مشياً و هو يراقب إذا كان أحد يتبعه ، و يسقط من يده جريدة يحملها و عندما ينحني لالتقاطها عن الأرض يتلفّت يميناً و يساراً ، ثم يقف أمام دكان (أبو محمد) في مدخل المخيم ، ويدردش مع أبي محمد و هو ينظر حوله ليتأكّد إذا كان مراقباً أم لا ، و يصل إلى بيته بعد أن يدور في أزقة المخيم ، وكلّ فترة و أخرى يطلّ من شباك المنزل على الشارع ، دون أن يلحظه أحد ، ليرى إذا كان يقف هناك أي من المخبرين الذين يعملون مع مودي .
واستطاع تضليل عيون المخابرات و الالتقاء بشباب كتائب الأقصى وروى لهم ما حدث معه و قدّم اقتراحه ، ورغم المفاجأة لدى شباب الكتائب إلا أنهم بعد التفكير باقتراح حسن ودراسته من كل الجوانب، فرحوا بما نوى عمله حسن ولم يضيّعوا وقتا، أعطوه مسدساً ، وبدأ حسن بالتدريب في ظروف بالغة السرية لتحقيق نصرٍ طالما تمنّاه وتمنّته الكتائب على ذكاء المخابرات الصهينية .
ومع توالي الأيام و تضليل العقيد مودي من قبل حسن ورفاقه بخطة محكمة، وذلك بتزويده بتقارير مزيّفة عن العمل الفدائي ولكن فيها بعض المعلومات الصحيحة التي لا تضرّ لكسب ثقته، وفي ظروف صعبة للغاية كانت السيطرة
العسكرية والأمنية على الأراضي الفلسطينية فيها لـ مودي وجهازه ، تم تحديد ساعة الصفر وأمضى حسن ليلته تلك مع أبنائه.
و قال لميرفت :
أنت الكبيرة يا ميرفت ، يجب أن تضاعفي اهتمامك بإخوتك ..
ردّت ميرفت :
أحبهم يا أبي كما أحبك و أحب أمي ، و أحاول دائماً أن أوفّر لهم ما يطلبون .
حضن حسن ابنته و قال :
أعرف أنك كبرت يا ميرفت قبل الأوان ، و أنا أعتمد عليك و أحبك كثيراً ..
وقبل أن يخلد إلى النوم اطمئن على ما كان كتبه ، قبل أيام ، من كلام في ورقة صغيرة و أخفاها في المنزل .
اتصل حسن بمودي على هاتفه السري :
أريد أن أراك لأمرٍ هام .
فوجئ مودي الذي ردّ معاتباً حسن بلهجة قاسية :
ألم أقل لك لا تستخدم هذا الرقم للاتصال بي إلا إذا كان الأمر طارئاً .
رد حسن :
الأمر هام و ضروري .
سأل مودي :
ألم تكن تستطيع الانتظار حتى موعد المقابلة في المكان السري بالقدس .
أجاب حسن بصوتٍ جعله يبدو جاداً جداً :
قلت لك الأمر ضروري ، و على أية حال لديّ معلومات تتعلّق بأمنكم يجب أن تعرفها و أنت حر … !
عندها قال مودي :
إذاً موعدنا غداً الخميس في الساعة والمكان المتفقان عليه للحالات الطارئة .
اليوم هو الخميس : 14/06/2001
ذهب حسن مبكراً لموعده مع مودي الذي عرف أن مكانه قرب النفق في شارع الستين الاستيطاني على مشارف مستوطنة (جيلو) جنوب مدينة القدس المحتلة ، لتزويد هذا العقيد بالمعلومات الخطيرة التي بحوزته عن العملية الفدائية التي خطّطت لها كتائب شهداء الأقصى .
و قال حسن لنفسه و كأنه يخاطب مودي :
كنت دائماً تفخر بأنك صفيت حسين و يوسف و أبو خليل ، و الآن جاء دورك أيها المصفّي ..!
وعندما اقترب من الشارع الذي أقيم لخدمة المستوطنين و ابتلع آلاف الدونمات المزروعة بالزيتون من أراضي الفلاحين العرب ، اختبأ بين شجيرات محاذية للشارع لم تطلها جرافات الاحتلال ، فبقيت شاهدة على عروبة هذه الأرض.
كان كلّ شيء بالنسبة لحسن يسير وفق الخطة الفدائية التي وضعها مع رفاقه وعندما اقتربت سيارة مودي الفوكس فاجن الحديثة ، تقدّم حسن وهو يخفي شيئاً في يده و ما إن فتح حارس مودي الباب ليصعد حسن ليذهب معهم لمكتب
مودي في مقر المخابرات ، ليقدّم التقرير الهام ، حانت بالنسبة لحسن اللحظة الفارقة التي عاش أشهراً لأجلها و أيقن أن ذكاء الحق سينتصر الآن على تكنولوجيا الباطل ، فأشهر مسدسه وفي ثواني كان يطلق رصاصات قاتلة على مودي فأرداه قتيلاً على الفور ، و قبل أن ينتبه حارسه على المفاجأة ، أطلق حسن رصاصتين في رأس و رقبة الحارس ، الذي لم يقتل ، وبسرعة عاد حسن أدراجه ، إلى حيث أتى بعد أن نفّذ الخطة ، دون أن يدري أن مودي كان معه حارسٌ ثانٍ يجلس في المقعد الخلفي و لم يتمكّن حسن من تمييزه بسبب زجاج السيارة الأسود الذي يجعل من بداخل السيارة يرى ما يجري خارجها دون أن يتمكّن من يقف خارجاً من رؤية من بداخل السيارة .
ولم يحرّك الحارس الثاني ساكناً إلا بعد أن رأى حسن يعود أدراجه ، فأطلق النار عليه من الخلف فسقط حسن على الأرض ، بعد أن أبلغ مودي بطريقته عن العملية الفدائية التي خطّط لها منذ شهور .
ميرفت و حسن
بعد قليل من الحادث كان رفاق حسن و جماهير غفيرة بدأت تتوافد على منزل حسن في مخيم (بيت جبرين) ، فرغم أن أجهزة المخابرات الصهيونية لم تعلن اسم الضابط القتيل أو اسم الذي قتله ، إلا أن جميع المعلومات كانت لدى
الكتائب ، فهي تعرف من هو مودي وأن الذي صفاه هو (أسد الكتائب) حسن أبو شعيرة ، كما أطلق على حسن . و أصبح أفراد الكتائب مصدر المعلومات الموثوق لوكالات الأنباء العالمية التي انشغلت بالنبأ الصاعق على أجهزة مخابرات الاحتلال .
في مخيم (بيت جبرين) بدأت المفاجأة على أسرة حسن ، كانت الأخبار تأتي تباعاً ، و لكن الخطأ الذي ارتكبه رفاق حسن ، رغم جهدهم الاستخباري والتدريبي الذي يثير الإعجاب، فهو تصديقهم لرواية المخابرات الصهيونية حول مقتل حسن ، ويبدو أنهم من خلال رصدهم للعملية شاهدوا حسن و هو يسقط برصاص الحارس الثاني ، فاعتقدوا بأنه استشهد ، مع أنه في مثل هذه الحالات وبغياب رواية صادقة أو مستقلة ، فلا يجب أبداً الركون إلى روايات مخابرات معادية . وأقيمت لحسن خلال الأيام التالية مهرجانات وطنية و ألصقت صوره على الجدران وطبعت على القمصان و أصبح اسمه على كل لسان كبطل يحتذى ، وكان الجميع في انتظار تسلم جثمان حسن الذي سلّم لأهله بعد 12 يوماً من العملية، وتبيّن بعد فحص الجثمان، خطأ تسرّع الكتائب بتصديق الرواية الصهيونية حول مقتله ، لأن الشواهد تدلّ على أن حسن اعتقل بعد إصابته وتعرّض لتعذيب قاس، فهناك حروق على الجثمان وأحشائه مفقودة وتم فقأ عينه اليمنى وأصابعه مقطعة وهناك آثار لسبع رصاصات أطلقت على رأس حسن من نقطة صفر .
ونقل جثمان حسن بالزغاريد إلى مثواه الأخير لدفنه بجانب قائد الكتائب الشهيد حسين عبيات ، ورأى المشيّعون زوجة حسن وهي تتقدّم وتحمل في نعشه بدون أن تذرف أية دمعة وتهتف بحياته وحياة جميع الشهداء ، وبجانبها تسير ابنتها ميرفت .
وبعد الجنازة و في ساحة المخيم الذي ولد فيه حسن مشرداً عن بلدته الأصلية وقفت ابنته ميرفت تمسك الورقة التي خطّها واطمئن عليها ليلة ذهابه لموعده مع ضابط (الشاباك) و لم تكن إلا وصيته ، و تلتها ميرفتبصوت واثق و هي ترتدي قميصاً عليه صورة والدها الشهيد :

(بسم الله الرحمن الرحيم)
وداعاً يا دنيا، إلى الذين يريدون معرفة الحق و فتح أبصارهم على النور و إنقاذ أنفسهم من أن يكونوا فرائس سهلة بين أنياب و مخالب هذه الدنيا ، أقول ضارعاً إلى الله عز وجلّ أن يتقبل منا و أن يجعله في ميزاننا يوم القيامة و أن يكون خالصاً لوجهه و أن ينفعنا و ينفع بنا ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا و هب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب .
أما بعد ... فأنا حسن سعيد أحمد حسن أبو شعيرة من سكان مخيم العزة أبلغ من العمر 32 سنة متزوج و يوجد لديّ أطفال (3) أرجو من الله أن لا ينساهم أحد من الشرفاء ومن أهلي العظام في هذا المخيم من بعدي ، أهلي سوف أقوم بكلّ فخر بعمل بطولي في سبيل الله والوطن وفي سبيل شهداء الأقصى وأثأر لكلّ شرفاء فلسطين ومن هنا أقول إلى أهلي وجيراني المناضلين وأبناء هذا المخيم المناضل أن يستمروا في مسيرة الكفاح حتى النصر و يرجع الحق إلى أهلنا بإذن الله و أقول حسبنا بالله ونعم الوكيل ... أهلي الكرام أبناء عمّي أجمعين .. أنتم من جعلني بكلّ فخر واعتزاز أن أكون بطلاً من أجل هذا الوطن وبهذا أقول سوف أقوم بعملٍ بطولي في أقرب وقتٍ ممكن .. يا رب بأن يكون هذا مشرّفاً لكم ولكل فلسطيني ، لا تنسوا أبنائي يا أهلي من بعدي حتى أطمئن في قبري ..وأخيراً أقول :
بسم الله الرحمن الرحيم قال تعالى:
(ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون)
صدق الله العظيم ...
أخوكم : حسن سعيد أبو شعيرة
في حركة فتح أنا شهيد أنا شهيد يا رب يا رب في سبيل الله و فلسطين
الأقصى في دمي وداعاً.
5/6/2002
وأصبح حسن نموذجاً ومثلاً ، وكتب رفاقه الذين تابعوا العمل من بعده على صورة جدارية كبيرة له في مدخل المخيم الذي ولد وعاش فيه بعيداً عن بلدته الأصلية المدمّرة :
(إن كسر المدفع سيفي فلن يكسر الباطل حقّي)

إرسال تعليق Blogger

 
Top