المتداولة عبر العالم, ليس لاعتبارات أمنية أو عسكرية فحسب, بل لأهداف سياسية و اقتصادية كذلك.
منذ ذلك الحين زاد يقين فئات من المجتمع بوجود مجتمع نخبوي سري حقيقيي, يقف خلف هذه الحكومات و يظم أقلية من أثرياء العالم المهوسين بنظريات السيطرة, يرغب في السعي الحثيث لتحويل مفهوم " العين التي ترى كل شيء " و الذي تتخذه هذه النخب شعارا لها إلى واقع ملموس و حقيقي, بعد أن بات عصر الرياضيات و التقنية يسمح بذلك, و بعدما فتح السقوط المُبرمج للكتلة الشرقية الباب على مصراعيه للنخبة العالمية, من أجل الانفراد الكلي بقيادة مصائر قرّات و دول و وشعوب, نحو ما بدا حينها عصر الانفتاح و التحرر الكلي من جميع أشكال القيود و الكبت و الاستعباد, التي مارستها الحكومات و الأنظمة السياسية و الاجتماعية القطرية, نحو مجتمع عالمي لا يحده أي نوع من الحدود, تم رسم معالمه تحت اسم النظام العالمي الجديد.
و وصولا إلى عقد التسعينات, فقد أحدثت الانطلاقة الصاروخية و غير المسبوقة للشبكة العالمية " انترنت", ارتدادات مست نمط عيش المجتمع البشري بشكل راديكالي, إذ عرف هذا المجتمع تغيرات فكرية و اجتماعية و ثقافية كبيرة في ظرف وجيز جدا, بحيث أنه و على امتداد عقدين من الزمن, عرفت البشرية تغيرات أسرع و أعمق – اجتماعيا و ثقافيا – مما عرفته طيلة الفترة الممتدة ما بين قيام الثورة الصناعية في بريطانيا إلى انهيار جدار برلين. الشيء الذي فرض على سعاة السيطرة إيجاد طرائق جديدة, للرقابة و ملاحظة و دراسة و فهم ديناميكية تطور المجتمعات في مختلف مناحي حياتها – خاصة الاقتصادية منها – على ضوء تأثر هذه المجتمعات بالحركية التي راحت الانترنت تمارسها عليها, و ذلك في سبيل صياغة الخطط و تبني الطرائق المناسبة للتعامل مع هذا المجتمع العالمي الجديد الذي أوجدته الانترنت, لوضعه تحت السيطرة دائما, لأهداف اقتصادية أساسا, تتبعها أخرى سياسية, اجتماعية, ثقافية....الخ.
لقد كانت أولى ملاحظات المتتبعين لتطور الشبكة العنكبوتية أواسط التسعينات, أنها لا تخضع لأي نمط محدد في توسعها الرقمي, و ذلك لكونها تتميز بخاصية إفساح المجال لأي شخص أو مجموعة او هيئة يُمكنها أن تترك بصمتها الخاصة في هذا التوسع و التطور المطرد, فآلاف الأشخاص و المؤسسات و من مختلف البلدان و القرات طفقوا يزودون الشبكة يوميا بمئات الآلاف من الوثائق و المنشورات و البرمجيات و وسائل الخدمة عبر الخط, من خلال تأسيس مواقع و مدونات في مختلف المجالات, و لم ينتظر العالم إلا بضع سنين ليرى هذه الشبكة و هي تتحول إلى أكبر فضاء للمعلومات و الاكتشاف و التواصل و التعبير الحر و المعاملات بكل أنواعها على الإطلاق. و هنا يطرأ السؤال الأكبر على الذهن, و هو الخاص بموقع النخب العالمية ( قادة النظام العالمي الجديد ) من هذه الثورة العظيمة, خصوصا إذا سلمنا بحقيقة أن التطور الانفجاري لشبكة الانترنت و عالم الويب, قد كرس حقيقة مفادها أن الاحتكار السابق للمعلومة و الحقيقة مهما كان نوعها و وزنها و معيارها قد صار من الماضي, و أنه اليوم يوجد واقع جديد يقول بأن اي شخص, مهما كان مستواه و انتمائه و موقعه الجغرافي, يُمكن أن يحصل على المعلومة و الحقيقة بنقرة واحدة على الفأرة, و أن المعيار الوحيد الذي يصنع الفرق بين شخص و آخر هو نوع تعامله مع تلك المعلومة و كيفية استخدامها و لأي غرض يتم ذلك الاستخدام, دون إغفال الفروق بين شخص و آخر أو مجموعة و أخرى في قدرة الوصول إلى المعلومات الصحيحة و الحقائق السليمة و التفاعل معها بالشكل الأمثل, و هنا – في نظرنا – يوجد أحد مفاتيح فهم العلاقة بين الانترنت و بين من يقودون العالم, و يحاولون رسم معالمه بما تقتضيه مصالحهم و أهدافهم النهائية. و في سبيل هذا كانت القاعدة و لا تزال بسيطة, و قد تم نقلها من عالم الصحافة و الإعلام إلى عالم الويب مع تغييرات في الشكل و ليس في المضمون و هي تقول: " من يتحكم في مصادر المعلومات و المعرفة... يتحكم في نمط سير الآراء و العقول ".
لقد كانت أولى الخطوات التي توحي بالتحرك غير المعلن لإخضاع سلوك شبكة الانترنت لنوع من الرقابة, و محاولة تنظيم عملها, أمام الضغط الهائل الذي صار يمارسه الرواد الباحثون عن كم لا يحصى من المعلومات و المعارف و الترفيه و التعارف و توسيع الآفاق, هو إيجاد ما يسمى بمحركات البحث, التي تعتبر في شكلها الصريح نوعا من البرمجيات, التي كانت تهدف في بادئ الأمر إلى تسهيل مهام رواد الشبكة في الوصول إلى أي نوع من المعلومات بكل سهولة, عن طريق إدخال الكلمات المفتاحية للبحث المراد تحقيقه, و في ذلك الحين كان من الصعب على البعض أن يتصور مثلا أن تكون تلك المواقع خاضعة لرقابة المؤسسات المخابراتية الأمريكية.
إن التسريبات الكبيرة التي هزت العالم في السنوات الأخيرة, و المتعلقة برؤوس الأموال الضخمة التي تضخها شركات استثمارية لتطوير محركات البحث عبر الانترنت, تكشف عن أن أكبر مواقع البحث على الشبكة, كمحرك غوغل العملاق و لواحقه مثلا, ترتبط بشركات استثمارية انشأتها وكالة المخبارات المركزية CIA كشركة In-Q-Tel , التي تم إنشاءها عام 1999 بهدف البحث عن الفرص الاستثمارية الواعدة, المتعلقة بالتكنولوجيات المتطورة و مواقع الانترنت, التي يمكن لها أن تصبح مواقع كاسحة, على شاكلة غوغل و فيسبوك و يوتيوب و غيرها, من أجل الاستثمار في هذه المشاريع الناشئة ( اختراقها ماليا و من ثم إداريا ), لجعل وكالة المخابرات المركزية الجزء الخفي منها. فمثل هذه الحقائق باتت من المسلمات حاليا, لذلك لن نفشي سرا إن قلنا أن أغلب و أكبر محركات البحث و ما يرتبط بها من خدمات كالبريد الالكتروني و المدونات و غيرها, الموجودة في أشهر المواقع, خاضعة لرقابة الأجهزة الاستخباراتية, لكون هذه الأخيرة شريكا في رأس مال الموقع, أو كمتعامل تجاري بالنسبة لمواقع أخرى, إذ صار بيع المعلومات و المعطيات الخاصة بمشتركي خدمات الويب للأجهزة الحكومية تجارة مربحة للشركات المشرفة على بعض تلك المواقع. و هكذا, فإن أمر وقوع أكثر المواقع شعبية في الشبكة تحت رقابة نظام إيشلون العملاق ( العين التي ترى كل شيء ) صار من المسلمات, و الأمر لا يتوقف عند هذا, لكنه أعمق بكثير, إذ ما الذي يمكن استخلاصه من طبيعة وجود محركات البحث في الشبكة ؟.
لقد كان مبدأ عمل محركات البحث البدائية سنوات التسعينات يقوم على أساس استعراض نتائج البحث, عن طريق ترتيب النتائج حسب عدد مرات ظهور المصطلح الذي يتم البحث عنه داخل الصفحة, و هو ما يفتح المجال للتشكيك في خلفية عمل محركات البحث نفسها, التي تبدو – إذا أخضعناها إلى هذا المنطق – و كأنها في الحقيقة وجدت لهدف آخر, و هو العمل كأدوات للسبر, تعمل على تشكيل أرضيات بيانية تخص أكثر المواقع المطلوبة التي يتم البحث عنها من طرف زوار الشبكة, و من ثم المواضيع و المعلومات المتعلقة بها, إضافة إلى عدد الأفراد و توزيعهم الجغرافي....الخ.
لكن و مع نهاية سنوات التسعينات, فإن برمجيات و أسس عمل هذه المحركات قد تغيرت و تطورت, لتتحول من العمل بمبدأ ترتيب النتائج حسب عدد مرات ظهورها, إلى مبدأ " تحليل العلاقات بين المواقع التي يتم البحث عنها ", و من ثم عرض تلك النتائج بحسب العلاقات المتقاربة بين المواقع, و هي التقنية التي اشتهر بها محرك البحث الأمريكي " غوغل ", و التي جعلت منه أحد أفضل محركات البحث على الإطلاق.
و في هذه النقطة يجب الاعتراف بأن هذا المبدأ قد حسن كثيرا من عمليات البحث عن أي نوع من مصادر المعلومات, كما جعل هذه العملية سهلة, سلسة و فعالة, و هي أشياء إيجابية تحسب للشبكة العنكبوتية. لكن التمعن في هذه الطريقة الجديدة التي تعمل بها محركات البحث و مقارنتها بالطريقة السابقة, يجعل ملاحظة مهمة تومض في العقل لوهلة, فماذا يعني الانتقال من استعراض النتائج بحسب عدد مرات ظهور كلمة البحث على المحرك إلى استعراضها بحسب العلاقات المتقاربة بين المواقع و بين كلمة البحث, خاصة إذا سلمنا بحقيقة السبر و الجمع البياني ذو الطابع الإحصائي لتوجهات و اهتمامات و خلفيات رواد الشبكة, كهدف غير معلن للشركات المشرفة على هذه المحركات... و من ورائها المؤسسات المخابراتية العالمية ؟.
إن الأسس البدائية التي كانت تعمل بها محركات البحث توحي بأن جمع تلك المعطيات كان يتم وفق أسس إحصائية " كمية " لا تراعي كثيرا – إما عن غفلة أو عن عجز في التقنية – التوجهات و الخلفيات المتشعبة أو الأكثر تعقيدا للجماهير المتصلة بالشبكة, فنحن نشعر بأن اعتماد المبدأ الثاني في طريقة عمل محرك البحث جاء ليسد هذه الطفرة, إذ يوحي بأنه مهما كانت أساليبه و أهدافه الإحصائية المتبعة, فقد صارت بشكل ما ذات طابع " نوعي ", و ذلك بتحليل العلاقات بين المواقع المستهدفة في البحث, و ربطها بخلفيات الشخص أو الأشخاص الذين يقومون بعملية البحث, و كلها تصب في بنوك المعلومات التي تشكل مستودعا حقيقيا للخطط الخام, ليس فقط ذات الطابع ألاستخباراتي و الأمني, التي تهدف إلى الوصول إلى التهديدات ذات الأنماط التصاعدية أو التنبؤ بها, بل و تتعداه إلى وضع القوانين المنبثقة عن هذه العمليات المرتبطة أساسا بتقدير درجة وعي فئات المجتمع على اختلافها, تجاه مختلف المسائل السياسية, الاجتماعية, الاقتصادية.....الخ, و هو ما يؤسس للقدرة على التنبؤ بسلوكياته و ردود أفعاله تجاه مسائل أو أحداث معينة مستقبلا, مما يجعل التعامل معه أكثر سلاسة و مرونة.
إن هذا النوع من الاختراق غير المعلن, يسمح في حقيقة الأمر بتطوير مستويات و أنماط جديدة من عمليات التدخل عبر الشبكة, لمواجهة أنواع التهديد الجديدة, التي أوجدتها الطبيعة الهلامية و المفتوحة لعالم الويب, و لكي نبسط هذا الأمر, نورد مثال هذا المقال بالذات, إذ أن البرمجيات التي تسير بها المدونات أو المنتديات التي سيظهر فيها مقالنا هذا, تحتوي في العادة على معاجم خاصة, فيها كل الكلمات أو العبارات التي تشير إلى المواضيع أو الأشياء, التي تدخل ضمن اهتمام و أهداف المؤسسات السرية التي تراقب الشبكة, و هذه المعاجم تتسم بتصنيفات معينة, منها ذات الطبيعة الأمنية مثلا, و التي في العادة ترصد كلمات او عبارات ذات مدلولات أمنية ككلمة " القاعدة " أو " الجماعة الفلانية المسلحة "....الخ, و منها ذات الطبيعة السياسية مثلا, و منها ما يدخل ضمن نظام مراقبة " وعي " الأشخاص و الجماعات تجاه الحقائق المرتبطة بما يُعرف بـ" نظرية المؤامرة ", فإن كان مقالنا هذا – على سبيل المثال لا الحصر – يدخل ضمن هذا التصنيف, فهو يضاف إلى مجموع كل المواد المنتشرة عبر الشبكة, و التي تخدم نفس الهدف, بحيث تقوم معالجات البيانات بحساب نسبة هذه المواد بمختلف لغاتها عبر الشبكة, و تقدير أعداد الأشخاص الذين يطالعونها مع توزيعهم الجغرافي, بل و ربما حساب النسب التقريبية للذين يمكن أن تترك في أنفسهم آثارا معينة, قد تشكل متاعب مستقبلية لخطط النخب, أي حساب و تقدير نسبة و درجات وعي المجتمعات تجاه مثل هذه المسائل وفق خصوصيات كل مجتمع و ظروفه الحالية و خلفياته المختلفة....الخ.
و لمواجهة هذه التهديدات المحتملة, لا يكون الرد عليها بالحذف أو التشويه أو ما شابه, بل بطرق اكثر سلاسة و هدوء, فببساطة, إن كان مقالنا هذا يحمل درجة تهديد معتبرة, إذ أنه يفتح أعين القراء على مسألة مثيرة لم يكونوا على دراية بها من قبل, و من ثم تشكيل نوع من الوعي بحقيقة الوجه الآخر للشبكة العنكبوتية, فإن اللازم – من منظور إحصائي – هو مواجهة هذا النوع من المقالات بعشر مقالات أخرى تتحدث في نفس الموضوع, لكنها تتضمن قراءات و مضامين ذات طبيعة التباسية و مشوشة, تربك
العقل الباحث عن الحقيقة, و الذي قد يضيع في بحثه ذاك, إذ تتم زحزحته منهجيا عن الطرق الصحيحة و يتم تحييده في النهاية, فيجد نفسه على الهامش, و تكون محصِّلته هي معلومة واحدة صحيحة و تسع يلفهن التعتيم و اللبس, و هكذا يكون عقلا غير مؤثر.
هذا دون الحديث عن أخبار و صور نجوم كرة القدم و فضائح نجمات الغناء و ما شابه ذلك, التي تفيض بها الشبكة, و الموجهة أساسا إلى السواد الأعظم من الجماهير التي تم تشكيل وعيها لامتلاك الإرادة " المسبقة " في عدم معرفة شيء قد يضر مشروع العولمة بشكل جاد. لذلك نفهم الآن لماذا لا يمكن إطلاقا للمواقع و المواد ذات المضامين الهادفة أو المفيدة التي تنتشر عبر الشبكة, أن تكون أكثر من نظيراتها ذات الطبيعة المشوشة أو المربكة, و هذا دون الحديث عن استحالة تغلب المواد الجادة و الترفيه الهادف على المواد السخيفة و الترفيه الهابط في الانترنت, و هذه السياسات لم يكن لها لترسم لولا المعطيات و البيانات الإحصائية, التي تقدمها محركات البحث لصناع القرار و المخططين الكبار بانتظام.
و تبرز مسألة اختراق حواسيبنا و عقولنا من طرف محركات البحث, فيما كان الناشط الأمريكي "Eli Pariser " قد أشار إليه, و هو الجوانب السلبية " الخفية " التي تخلقها المبادئ اللغرتمية غير الواضحة التي يسير بها غوغل و غالبية المواقع الكبرى, و التي لا تزال تحاط بكثير من التكتم من طرف مدراء هذه الشركات, فقد أورد هذا الناشط أن غوغل يحتوي على ما يشبه برنامج تعقب, يستطيع رصد 57 إشارة منذ اللحظة التي يدخل فيها الشخص إلى المحرك بحثا عن أي شيء, و من بين تلك الإشارات نذكر مثلا موقع الشخص أو المكان الذي يجلس فيه و نوع جهاز الحاسوب الذي يستخدمه, إضافة إلى المعلومات التي يبحث عنها, بحيث يتم تسجيل كل ذلك من طرف الموقع ليتم لاحقا " شخصنة " صفحة المستعمل على غوغل, إذ يصبح له صفحته الخاصة, التي تجعله يرى معلومات و يصل إلى روابط تختلف عما يظهر لدى الآخرين, و هنا مكمن اللغز. فلماذا تسلك محركات البحث هذه السلوكيات اللغرتمية الانتقائية, فتُصمم لكل شخص ما يراه على الشبكة وفق مقاسه الفكري و المزاجي و توجهاته الخاصة و من دون علمه, بدل التعامل مع جميع مستخدمي الانترنت بشفافية كاملة, و إفساح الفرصة للجميع للحصول على كل الخيارات البحثية المتوفرة, رغم الموضوعية التي قد تظهر بها الحجج المقدمة لمواجهة هذا السؤال, و المتعلقة أساسا بأهداف تسهيل عمليات البحث و جعلها أكثر فعالية.
يُطلق Pariser على هذه الظاهرة اسم " مصفاة القفاعة "The Filter Bubble ", و قد ظهر هذا المفهوم بعد أن اكتشف خبراء الإعلام الآلي و الويب أن أشخاصا كثرا عبر الكوكب, يبحثون عن معلومة واحدة في وقت واحد, لكن كل واحد منهم يحصل على نتائج مختلفة ( كما و نوعا )عما تحصل عليه البقية, و ذلك يعتمد على أنماط السلوك التي يعتمدها كل واحد منهم في الشبكة, و التي ترسمها الأرضيات البيانية لمحركات البحث, بحيث يصبح المبدأ الخفي الذي تعمل به هذه البرمجيات مع مرور الوقت هو " عزل " كل شخص في فضاء الانترنت الخاص به ( فقاعته الخاصة ), في حين تعمل محركات البحث كمصفاة تحدد ما يراه و ما لا يراه خلال إبحاره عبر الشبكة, و فيما يظن أنه يتشارك مع الملايين في هذا الفضاء الديمقراطي الرقمي, و في الفرص المتكافئة في قدرة الولوج إلى المعلومات و الوصول إلى المعارف, فإن تلك المعلومات و الحقائق إنما يكون قد وصل إليها لوحده, و ستظل خاصة به ما لم يقم بتقاسمها و مشاركتها مع معارفه على الأقل, لآن تقاسمها مع جميع رواد الشبكة يبدو أمرا مستحيلا تقنيا.
و يذهب الناشط الأمريكي السالف الذكر مع كثير من المهتمين و الباحثين أبعد من ذلك, في تفسير سلوك الشبكة العالمية في مجال الإعلام و الأخبار و الاتصال الرقمي, إذ يخلصون إلى أن الانترنت, و إن كان في الظاهر يبدو كعالم لا تحده الحدود, أين يشترك جميع رواده في فرص الوصول إلى المعلومات و الأخبار و المعارف, إنما في الحقيقة هو عالم – و عن طريق محركات البحث – يعمل بشكل من الأشكال من أجل أن يعزل كل شخص عن البقية, خلف جدار رقمي مُصمم وفق ما يعتقد هذا الشخص بأنه الحقيقة, و الأمر ليس بالتعقيد الذي قد يراه البعض, فببساطة, فإن محركات البحث تقوم على نفس المبدأ الذي تعمل وفقه وسائل الإعلام و الاتصال الأخرى, الخاضعة لسيطرة النخب و خاصة في الغرب, و هو أن يُقدم للجماهير ما ترغب في رؤيته أو معرفته و ليس بالضرورة ما هي " في حاجة " لرؤيته و معرفته, و بما أن السواد الأعظم من هذه الجماهير قد تمت تربيته ليتوجه بإدراكه دوما نحو الهوامش الضيقة, و الانشغال بتوافه العصر باسم التحضر و الانفتاح..., فإن خدمة المحركات بصدد إعطائه ذلك و تحقيقه له, و من ثم فهي بصدد صياغة و تعزيز قيمه و تصوراته و موازين تفكيره في آخر المطاف, و جعلها في النهاية لا تشكل اي تهديد للتصورات النهائية للكبار, حول الكيفية التي يجب أن يكون عليها المجتمع البشري في هذا القرن الجديد.
إن التفكير في هذه الحقيقة يجعلنا نرى أن الخدمات التي تقدمها لنا محركات البحث و لواحقها لا يقابلها الاختراق شبه المؤكد لبياناتنا و أجهزة الإعلام الآلي الخاصة بنا فحسب, و الذي يحمل الطابع الأمني أو الاستخباراتي, الذي تحاول النخب العالمية اليوم جعلنا نعتقد بأنه العنصر الوحيد الموضوع في الرواق الخلفي للانترنت و الويب, بل قد يظهر أيضا من خلال ذلك التغيير الذي قد تحدثه محركات البحث في مستويات تفكيرنا و إدراكنا للأشياء, إذا تركنا لها تلك الفسحة التي تمكنها من التحكم في تصميم ذلك الجزء الصغير, الذي قد نراه و ندركه على أنه صورة كاملة, بينما هو في الحقيقة مجرد جزء من أحجية أكبر بكثير مما نتصور.
و هكذا نصل إلى ما كنا قد أشرنا إليه في البداية, و هو أن السعي كله منصب على الوصول و التحكم في البوابات التي تمر عبرها كل أشكال المعلومات و المعارف, إذ أن الحصول على القدرة على تقنين عملها أو تنميط طرق سيرها وفق ما تقتضيه مصالح و خطط الأقلية النافذة, قد يعني بالضرورة ترك بصمة أخرى في عمليات صياغة وعي الجماهير, أو كما يسمونها هم " بالحشود ", و محاولة تركها دوما تحت أشكال و مستويات مختلفة من الرقابة و السيطرة, و التأكد من أنها بعيدة عن الحقيقة, بل و جعل تلك الأقلية التي تصل إلى الحقيقة معزولة, مشتتة, و غير قادرة على إحداث الفرق. و خلاصة القول هي أن عالم الانترنت و الويب و إن لم يكن هو نفسه العين التي ترى كل شيء, فلا بد من عمل المستحيل لجعله كذلك في فلسفة قادة النظام العالمي الجديد.
إرسال تعليق Blogger Facebook