لا يبقى العقل ضمن حالة وعي واحدة كما يشير جهاز تخطيط الدماغ الكهربائي EEG.
نحن نمر يومياً بمجموعات متنوعة من الترددات المختلفة التي تعبر عن درجة اليقظة أو درجة النشاط الذي يعمل خلاله الدماغ, وهناك مجموعات من التأثيرات الفسيولوجية المرافقة لكل حالة.
1- حالة اليقظة أو موجة بيتا:
تعبر عن الحالة السريعة والطبيعية لنشاط الدماغ خلال اليقظة, حالة اليقظة تصف حالة إدراك العالم الخارجي، والقدرة على التفاعل معه، ووجود إدراك جيد للأفكار والمشاعر والأحاسيس, ولكن في المقابل يوجد إدراك ضئيل لحالة الوعي نفسها, هي حالة نشاط وفوضى "كهربائية" عارمة في الدماغ, وهذه الحالة شائعة خلال اليوم عندما نؤدي كامل الوظائف العقلية المطلوبة منا.
تنبع موجات بيتا في الأساس من النصف الأيسر من الدماغ الخاص بالجانب المنطقي, تتراوح موجات بيتا بين (12-38 هرتز), هذه الموجات هي المهيمنة على القسم الأكبر من البالغين خلال اليقظة، أما الأطفال فتظهر لديهم نسب أكبر من موجات ثيتا وألفا. موجات بيتا تساعد على سرعة التفكير-إنتاج القرارات والإبداع الفكري, هذا بالتأكيد مساعد في التحديات العصرية. لموجات بيتا أيضاً ارتباط بالنشاط الاجتماعي, الأفراد الاجتماعيون تظهر لديهم نسب أعلى من موجات بيتا لشمول تلك العلاقات مهارات كالمحادثة واستخدام الذاكرة والنقاشات وكلها وظائف دماغية بحاجة إلى التركيز, حالات الانتباه والإثارة والشغف أو ببساطة عند إبقاء العينين مفتوحتين هي أيضاً ناتجة عن نشاط لموجات بيتا. هناك ارتباط أيضاً بين ظهور موجات بيتا والنشاط الجسدي, فالرياضيون خاصة في مجالات كتنس الطاولة وكرة السلة لديهم نسب عالية من موجة بيتا, وغيابها بشكل كبير يؤدي إلى الخمول والكسل وغياب الإنتاجية.
موجات بيتا تزيد أيضاً معدلات الذكاء, مهارت كالقراءة والكتابة والقيام بالمسائل الرياضية مترافقة مع زيادات ملحوظة في موجة بيتا, الزيادة المفرطة في ذلك تؤدي إلى الشعور بالخوف غير المبرر أو الفوبيا, عندما تخاف من شيء ليس من المعتاد الخوف من منه أو الشعور بالوسواس طوال الوقت بالإضافة إلى التوتر القلق الشد العضلي, ارتفاع ضغط الدم, تدفق الأفكار بحيث يصعب السيطرة عليها, عدم القدرة على الاسترخاء كل ذلك يعني بالتأكيد بأنك تعاني من معدل غير طبيعي من موجات بيتا.
تنوع مصادر موجبة بيتا في حياتنا اليومية سبب في هذه الأعراض, إذا كنت من الأشخاص المدخنين أو تتناول القهوة و مشروبات الطاقة بكمية كبيرة فإنه من المرجح أن المشكلة نابعة من تلك العادات, والإدمان على الإنترنت وألعاب الفيديو هي أيضاً من الوسائل غير الصحية لزيادة موجبة بيتا, وعليك في هذه الحالة تعلم وسائل بسيطة لإزاحة نشاط هذه الموجات نحو ترددات أقل كألفا وثيتا, يتم ذلك خلال مراحل التأمل والتنويم المغناطيسي الذاتي.
2- التأمل وموجة ألفا:
عندما نباشر التأمل أو الصلاة فإن سرعة الموجات الدماغية في جهاز تخطيط الدماغ الكهربائي EEG تتباطأ إلى نحو (8-13 هيرتز) وهي موجات متوسطة السرعة (موجة ألفاα), هذا نوع من تهدأ نشاط العقل يقربنا أكثر إلى النظر إلى حالة الوعي نفسها, كمن ينظر إلى قدميه, عندما كان يجري أو يسير بسرعة لم يكن الشخص قادر على رؤية قدميه, عندما تقل سرعته يبدأ في ملاحظة حركة قدميه, يستطيع أكثر ملاحظة القديمين وملاحظة حركتهما, هذه هي موجة ألفا, عقل هادئة, الوعي هو القدم ونشاط الدماغ هو الحركة. لذا يشعر من يمارس التأمل بالهدوء والسكينة, ولهذا يشعر من يصلي بالسكون والهدوء, لأنه العقل كان يعمل بسرعة, كان يستهلك كمية كبيرة من الطاقة في التفكير بأمور سطحية, كان منهكاً.. كان كمن يتحرك بسرعة.. كان كمن يجري بسرعة.. الآن أبطأ من سرعته.. الآن أصبح يمشي.. الآن أخذ عقله يهدئ وهذا يفسر الشعور بالانتعاش الذي يرافق جلسة التأمل. عندما لا تشعر بذلك بعد التأمل فذلك يعني بأنك لم تكن تمارس التأمل بشكل جيد, عندما تنهي الصلاة ولا تشعر بالراحة ولا تشعر بالسكينة فأنت لم تكن تصلي بشكل صحيح, إن كنت بعد التأمل أو الصلاة لازلت تذكر الأفكار السطحية التي كانت تشغل عقلك قبل التأمل أو الصلاة فأنت لم تكن تتأمل... لم تكن تصلي.. عقلك لم تتغير حالته.. عقلك بقي منهكاً.. عقلك يريد المزيد من الراحة.. المزيد من السكون.
أن نتعلم كيف نهدأ من نشاط عقولنا هو أمر مهم, أنت عندما تسافر خلال الطرق الصحراوية الطويلة لا تنطلق في السيارة بالسرعة القصوى معظم الوقت, المحرك سرعان ما سيحترق أو سيتعطل, لن يعمل, ما يقابل التعطل أو عدم الكفاءة في عالمنا البشري هو التوتر, والتوتر هو أساس المشاكل الصحية المعاصرة.
3- اللاوعي وموجة ثيتا:
تتراوح موجات ثيتا بين (4-7 هيرتز), هذه الموجة مترافقة مع الاسترخاء الجسدي العميق, أثناء النوم والأحلام, هذه هي الموجة التي يتم فيها الالتقاء بين الوعي واللاوعي, كخط رفيع, ترتبط موجات ثيتا بالعواطف والمشاعر, وتكثر لدى الأطفال والمتأملين المتقدمين كما أن الرسامين والموسيقيين يمتلكون درجات عالية من هذه موجات, بالإضافة إلى الميل نحو الجوانب العاطفية والمشاعر تكثر الابتكارات العبقرية خلال الغوص في هذه الموجات العقلية وكذلك القدرة على التعلم السريع خاصة اللغات وهذا يبرر السرعة التي يتعلم بها الأطفال اللغة في سن مبكرة (وهم يمتلكون نسب أعلى من موجات ثيتا) ولكن بعد سن العشرين نشعر أن تعلم لغة جديدة أشبه بتحدي حقيقي لقدراتنا العقلية.
يجدر الإشارة أيضاً أن موجات ثيتا مرتبطة بالتجارب الروحية والباراسيكولوجي أو تجارب ما وراء الطبيعة والتجارب الدينية, هذا يشمل, ليس فقط الوصول إلى وعي ووضوح في الرؤية الذاتية بل أيضا الحصول على منظور جيد اتجاه علاقة الذات بالمحيط الخارجي والروابط الخفية بينهما. التخاطر والجلاء البصري وحتى الإسقاط النجمي كلها تحدث جزئياً في هذه المرحلة من النشاط الدماغي وفي المرحلة التي تليها, ورغم أن موجة ثيتا مفيدة للغاية في العديد من الجوانب خاصة في التنويم المغناطيسي وعلاج العقل والجسد إلا أن زيادتها عن الحد الطبيعي مضر في الوقت نفسه -كحالة كل الموجات الأخرى- فزيادة موجات ثيتا تعني عدم القدرة على التركيز والشعور بالفوبيا الشديدة, التفكير العشوائي وعدم القدرة على السيطرة على التفكير كلها أعراض لاجتياح اللاوعي المناطق الواعية من العقل, وأيضاً النعاس والكسل والرغبة الشديدة بالنوم وهذا بسبب عمل هذه الموجات على استهلاك طاقة جسدية أقل, لذا إذا كنت تعاني من هذه الأعراض فالأرجح أنك تمتلك ترددات ثيتا أعلى من المعدل الطبيعي, إن الوسائل الطبيعية لزيادة موجة ثيتا تكمن في التأمل, سماع الموسيقى, النوم, التنويم المغناطيسي, التخيل الإبداعي واليوجا.
4- موجة دلتا والاقتراب من الموت:
موجة دلتا وهي بحدود (صفر -4 هرتز). هي أبطأ الموجات العقلية وتترافق مع أشد حالات الاسترخاء الجسدي والعقلي, وكموجة ثيتا تظهر بكثرة خلال النصف الأيمن من العقل, وهي مترافقة مع المرحلة الرابعة والخامس من النوم, النصف الأيمن من العقل هو الجزء العاطفي لذا تترافق الزيادة في هذه الموجة مع التعاطف اتجاه الآخرين والمشاعر العميقة والقدرة على قراءة الإشارات غير الواعية التي يصدرها الآخرون, هذا المستوى من النشاط العقلي له أهمية كبرى, خاصة وأن موجة دلتا مرتبطة بإفراز الهرمون وهي مركبات كيميائية تتحكم بالعديد من الوظائف الحيوية في الجسم كما تتحكم بجهاز المناعة والدفاعات الحيوية لذا فزيادة موجات دلتا مرتبطة بزيادة العمر, في العادة من المستبعد أن يتمكن الشخص العادي من اختبار هذه الموجة بشكل واعي, لكن اليوغي والرهبان البوذيون والمتأملون المتقدمون يزعمون بالقدرة على الوصول إلى هذه الموجات بشكل واعي والسيطرة على تأثيراتها, لعل هذا هو مصدر أحد الأساطير الشائعة في الصين القديمة خاصة في عقيدة التاو حيث الخالدون العشرة سيطروا على سر الحياة والشباب الدائم, لأن موجة دلتا تتحكم بكل الهرمون بما فيها هرمون النمو وجميع العمليات الأخرى الأساسية كالشفاء الطبيعي والتجديد وترميم الجسد والعقل بعد النشاط العقلي أو الجسدي. لذا نشعر بالراحة العقلية والجسدية بعد الاستيقاظ من النوم العميق.
إن الاتصال الكامل بالعقل الباطن, أحد الأهداف الأساسية للمتأملين المتقدمين هو خلق مساحة واعية داخل اللاوعي, بالرغم من أن اختبار موجة دلتا يعد نادر للغاية خلال مرحلة اليقظة إلا أن ممارسة التأمل بالإضافة إلى التنويم المغناطيسي الذاتي واليوغا يجعل الأمر ممكن للغاية.
علينا أن نذكر بأن جميع ظواهر الباراسيكولوجي سواء أكانت حقيقية أم كاذبة بالإضافة إلى تجارب الخروج من الجسد أو الاقتراب من الموت تتم مرافقة لكميات كبيرة من موجة دلتا, الاتصال بالروح أو الشعور بالطفو والتحليق نحو مستويات أعلى من الموجود أو الاتصال بالكون والوعي الكوني هو دائماً مترافق مع موجة دلتا, كما الحال مع جميع الموجات فزيادة موجبة دلتا مرتبطة بالعديد من الأعراض التي لا يرغب معظم الناس بالتعرض لها مثل فقد القدرة التامة على التركيز, النوم المستمر, الأحلام وأحلام اليقظة والتفكير غير الواعي. إن الوسائل الطبيعية لزيادة موجبة دلتا كما في ثيتا مرتبطة بالتأمل اليوغا والنوم وبالطبع التنويم المغناطيسي.
5- موجة جاما ...التحليق إلى القدرات الحقيقية للعقل:
في الماضي تم التشكيك بوجود مثل هذه الموجة لأن الأجهزة القديمة لتخطيط الدماغ الكهربائية لم تكن تقيس موجات تتجاوز حاجز الـ(25 هيرتز), وكانت تعزى النتائج إلى خطأ في القياس. لكن تأكد الأمر بعد ظهور الأجهزة الرقمية الحديثة, موجة جاما هي ذات تردد عالي للغاية يفوق التردد الطبيعي لليقظة, يرتبط ظهور موجات جاما في أجهزة تخطيط الدماغ الكهربائية بالشعور بالسعادة, محاربة الكآبة أو الشعور بالإحباط. كما أن وجودها يرتبط بالفهم المحسن وقدرة أعلى على التركيز, وفهم أعمق للذات تساعد صاحبها على التحكم في التوتر والقلق, كما أن زيادة نشاط العقل يؤمن فهم أعمق للوعي والطبيعة ومفهوم أوضح للحقيقة يفوق ما يمتلكه الأشخاص العاديون.
يكثر ظهور هذه الموجة لدى اليوغي والرهبان البوذيين والمتأملين المتقدمين, كما أن الأفراد الأذكياء يمتلكون موجات أعلى من جاما عن الأقران الأقل ذكاء. موجة جاما مرتبطة أيضاً بقوة الذاكرة, واليقطة العقلية أو التنوير, الطرق الصحية لزيادة موجات جاما هي بالتأمل المنتظم, المتأملون المتقدمون يمتلكون موجات جاما أكثر من الأفراد العاديين, في الحقيقة البعض لا يحتك بهذا النوع من الموجات طوال حياته, يترافق ذلك بتوتر وكآبة وإحباط شديد, إن درجة الإحباط والكآبة إضافة إلى الغباء أحد أهم المؤشرات لغياب موجات جاما من النشاط الدماغي.
إذن التأمل المتقدم هو وسيلة فعالة لتحصيل السعادة وزيادة نسبة الذكاء, كما أن المتأملين المتقدمون يمتلكون فهم أفضل للذات والطبيعة. يجدر الإشارة بأن زيادة هذه الموجات عن الحد الصحي يسبب الصداع. يكفي التأمل لمدة ساعة يومياً في زيادة نسبة موجات جاما في الدماغ, الاستماع إلى تسجلات صوتية لترددات جاما يساعد كثيراً على تسريع عمل هذه الموجات وتهيئة العقل للتأقلم معها على المدى القصير.
حالة الغيبوبة أو trance state:
من المضحك حقاً أنه ليس هناك مصطلح في اللغة العربية لوصف هذه الكلمة وصفاً دقيقاً, إن كلمة غيبوبة هي ما تقابل كلمة "trance" في اللغة الإنجليزية, فلدينا كلمة واحد في العربية تقابل كلمتين أو أكثر في اللغة الإنجليزية, فكلمة غيبوبة تترجم إلى الإنجليزية ككلمة "Coma" مع أنه هناك فرق شاسع بين المصطلحين ""trace و""coma, فالثانية تعني غياب تام للوعي, أي حالة من اللاوعي, بينما الأولى والتي سنتناولها الآن تعني حالة استرخاء عميق يتحقق خلالها مستوى أعلى من الوعي مع توجيه للتركيز العقلي وهي عملية طبيعية نمُر بها جميعاً بشكل يومي خاصة قبل النوم. فهي مرحلة انتقالية بين الوعي واللاوعي حيث استرخاء عقلي وجسدي, فإذا أردنا وصف هذا الحالة ضمن موجة عقلية فلابد أن تكون الموجة ثيتا المرافقة لعملية النوم, في البداية وقبل الشروع في الحديث عن هذه الحالة علينا استخدام مصطلح جديدة حيث أن مصطلح "غيبوبة" مربك للعديد من الأفراد ولا يستطيع وصف الحالة بشكل جيد. بعيداً عن التعقيدات اللغوية سنستخدم مصطلح "الحالة الانتقالية" لتقابل الـtrance في الإنجليزية للسبب الذي ذكرناه سابقاً.
الآن أصبح لدينا مصطلح جديد, ونحتاج لفهمه بشكل جيد حيث أن المرحلة الانتقالية أو الـtrance مهمة جداً في جميع التقنيات التي سنتحدث عنها لاحقاً, هذه الحالة هي البوابة التي ستسمح لك لاحقاً بالولوج إلى اللاوعي فهي أشبه ببوابة ذهنية يبقى معظم البشر بعيداً عنها, الدخول إلى حالة الاسترخاء هذه لا يعني النوم, مع أنه يبدو كذلك في كثير من الأحيان. أظهرت الدراسات العديدة أن حالة اليقظة أو إذا جاز التعبير قوة الحواس والانتباه تزداد بشكل كبير خلال هذه المرحلة, يمكن لك ملاحظة الأمر عند خلودك إلى النوم, إذا حاولت البقاء مستيقظاً مع جسد مسترخي للغاية وعينين مغمضتين فإنك تبدأ في سماع أضعف الأصوات, يمكن لك تجربة الأمر.. ضع وسائد على الجانبين واجعلهما تحت ذراعيك لتأخير النوم قليلاً حافظ على جسد مسترخي وراقب ما يحدث, راقب كيف تستطيع سماع صوت ذبابة تطير في أعلى الغرفة, صوت جهاز التلفاز في الغرفة المقابلة, وحتى صوت مرور المركبات في الشارع, البعض يظن أن الهدوء هو ما يضاعف قدرة السمع هذه, هذا خاطئ, ما يحصل بالفعل هو زيادة في قدرة الدماغ خلال هذه الحالة, زيادة قوة الانتباه أو الـ alertness.
إرسال تعليق Blogger Facebook