إن الحب الإلهي هو أن يحبنا الله تعالى لنا ولنفسه, أما حبه إيانا لنفسه فهو قوله تعالى ) وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ( خلق سبحانه الخلق ليسبحوه فنَطٌقهم بالتسبيح له والثناء عليه والسجود له , وأما حبه إيانا لنا فلِمَا عرّفنا به من الأعمال التي تؤدينا إلى سعادتنا ونجاتنا , من الأمور التي لا توافق أغراضنا ولا تلائم طباعنا , وعرفنا بمصالحنا دنيا وأخره , ثم رزقنا وأنعم علينا وأقام الدليل علينا على أن كل نعمة نتقلب فيها إنما ذلك من خلقه وما أوجد النعم إلا من أجلنا ثم إنه بعد هذا الإحسان التام لم نشكره , وقد علمنا أنه لا محسن إلا الله ، فمن إحسانه أن بعث إلينا رسولاً من عنده معلماً ومؤدباً فشرع لن الطريق الموصل إلى سعادتنا ، وحذرنا من الأمور المردية واجتناب سفاسف الأخلاق ومذامها ، وقذف في قلوبنا نور الإيمان وحببه إلينا ، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان ، فأمنا وصدقنا ، ثم مَنّ علينا بالتوفيق ، فاستعملنا في محابه ومراضيه ، فعلمنا أنه لولا ما أحبنا ما كان شيء من هذا كله.
حبه سبحانه للتوابين:
التواب صفته ومن أسمائه تعالى ، يقول عز وجل ) إن الله هو التواب (فما أحب إلا اسمه وصفته ، وأحب العبد لاتصافه بها ، ولكن إذا اتصف بها على حد ما أضافها الحق إليه ، وذلك أن الحق يرجع على عبده في كل حال ، يكو ن العبد عليه مما يبعده من الله ، وهو المسمى ذنباً ومعصية ومخالفة ، فإذا أقيم العبد في حق من أساء إليه من أمثاله وأشكاله ، فرجع عليه بالإحسان إليه والتجاوز عن إسأته ، فذلك هو التواب ، فإن كنت من التوابين على من أساء في حقك ، كان الله تواباً عليك فيما أسأت من حقه ، فرجع عليك يالإحسان.
حبه سبحانه للمتطهرين:
قال تعالى ) ويحب المتطهرين ( فالتطهير صفة تقديس وتنزيه ، وهي صفته تعالى ، وتطهير العبد هو أن يميط عن نفسه كل أذى لا يليق به أن يُرى فيه ، وإن كان محموداً بالنسبه إلى غيره ، وهو مذموم شرعاً بالنسبه إليه فإذا طهر نفسه من ذلك أحبه الله تعالى ، كالكبرياء والجبروت والتفخر والخيلاء والعجب ، وكل إنسان يعلم عجزه وذلته وفقره لجميع الموجودات ، وأن قرصة البرغوث تؤلمه ، ويفتقر إلى كسيرة خبز يدفع بها عن نفسه ألم الجوع ، فمن صفته هذه كل يوم وليله ، كيف يصح أن يكون في قلبه كبرياء وجبروت ، فمن طهر ذاته على أن تٌرى عليه هذه الصفات في غير مواطنها ، فهو متطهر ويحبه الله ، كما نفى محبته عن كل مختال فخور ، فإنه لا يظهر بهذه الصفة إلا من هو جاهل ، فما أبغضه الله ولم يحبه إلا لجهله ، فالمتطهر من مثل هذه الصفات محبوب لله.
حبه سبحانه للمطهرين:
وهو قوله تعالى : )والله يحب المطهرين (وهم الذين طهروا غيرهم كما طهروا نفوسهم ، فتعدت طهارتهم إلى غيرهم ، فقاموا فيها مقام الحق نيابة عنه ، فإنه المطَهّر على الحقيقة والحافظ والعاصم والواقي والغافر ، فمن منع نفسه ونفس غيره من المعصي’ ، فقد عصمها وحفظها وسترها ، ويكون محبوب عند الله مخصوص بعنايته وولايته ، والولاة الخلفاء من المقربين ممن استخلفهم عليهم ، لأنهم في موضع مقصور على من استخلفهم دون غيرهم ، وكل إنسان والٍ على جوارحه فما فوق ذلك.
حبه سبحانه للصابرين:
وهو قوله تعالى : )والله يحب الصابرين ( وهم الذين ابتلاهم الله ، فحبسوا نفوسهم عن الشكوى إلى غيره الله الذي أنزل بهم هذا البلاء ، )وما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا ( عن حمله ، لأنهم حملوه بالله وإن شق عليهم ، لابد من ذلك ، وإن لم يشق عليهم فليس ببلاء ، )وما استكانوا (لغير الله في إزالته ، ولجؤوا إلى الله في إزالته ، كما قال العبد الصالح )مسني الضر وأنت أرحم الراحمين ( فرفع الشكوى إليه لا إلى غيره ، فأثنى الله عليه بأنه وجده )صابراً نعم العبد إنه أواب ( مع هذه الشكوى ، فدل أن الصابر يشكو إلى الله لا إلى غيره ، فمن يفعل ذلك كان من الصابرين وهو محبوب الله.
حبه سبحانه للشاكرين:
وصف الحق نفسه في كتابه أنه )يحب الشاكرين ( والشكر لا يكون إلا على النعم ، لا على البلاء كما يزعم بعضهم ممن لا علم له بالحقائق ، لأنه تعالى أبطن نعمته في نقمته ، ونقمته فى نعمته فالتبس على من لا علم له بحقائق الأمور فتخيل أنه يشكر على البلاء وليس بصحيح ، كشارب الدواء المكروه وهو من جملة البلاء ، وهو المرض الذي لأجله استعمله ، فالألم هو عدو هذا الدواء ، إياه يطلب ، ولكن لما قام البلاء بهذا المحل الواجد للألم ، فإذا شكر الله على ما في هذا المكروه من النعمة الباطنة ، زاده نعمة أخرى ، وهي العافية وإزالة المرض ، ولذلك قال: ) لئن شكرتم لأزيدنكم (فزاده العافية.
والشكر يطلب المزيد ، فطلب من عباده سبحانه بشكره أن يزيدوه ، فزاده في العمل ، وهو قوله ( أفلا أكون عبداً شكوراً ) فزاد في العبادة لشكر الله ، فزاد الحق في الهداية والتوفيق في موطن الأعمال ، فاشحذ فؤادك واعلم أن الله شاكر عليم.
حبه سبحانه للمحسنين:
وهو قوله تعالى )والله يحب المحسنين (والإحسان صفته ، وهو المحسن فصفته أحب وهي الظاهرة في نفسه ، والإحسان الذي به يسمى العبد محسناً هو أن يعبد الله كأنه يراه ، وإحسان الله هو مقام رؤيته عباده في حركاتهم وتصرفاتهم ، وهو قوله ) إنه على كل شيء شهيد( ) وهو معكم أينما كنتم ( فشهوده لكل شيء هو إحسانه ، فكل حال يتنقل فيه العبد فهو إحسان الله ، إذ هو الذي نقله تعالى ، ولهذا سمي الإنعام إحساناً ، فإنه لا ينعم عليك بالقصد إلا من يعلمك ، ومن كان علمه عين رؤيته فهو محسن على الدوام ، فإنه يراك على الدوام لأنه يعلمك دائماً ، وقد قال ( فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) ، أي أحضر في نفسك أنه يراك ، تعلم أن معبودك يراك من حيث لا تراه ويسمعك ، وقوله ( وجُعِلت قرة عيني في الصلاة ) أراد رؤية من ناجاه فيها ، فإذا رآه قرت عينه بما رآه .
حبه سبحانه للمقاتلين في سبيل الله بوصف خاص:
قال تعالى )إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص ( يريد أن لا يدخله خلل ، فإن الخلل في الصفوف طرق الشياطين ، والطريق واحدة وهي سبيل الله ، وإذا قطع هذا الخط الظاهر من النقط ولم يتراص ، لم يظهر وجود للخط ، والمقصود وجود الخط ، وهذا معنى الرص لوجود سبيل الله ، وكذلك صفوف المصلين ، لا تكون في سبيل الله حتى تتصل وتتراص فيها ، وحينئذ يظهر سبيل الله في عينه ، فمن لم يفعل وأدخل الخلل ، كان ممن سعى في قطع سبيل الله وإزالته من الوجود.
وكذا الإنسان وحده ، هو صف في كل ما هو فيه متحرك ، فتكون حركاته كلها لله ، لا يتخللها شيء لغير الله ، فلا يقاومه أحد ، فإن الأعداء أبصارهم إليه محدقة ، ينظرون في حركاته وأفعاله ، عسى يجدون خللاً يدخلون عليه منه ، فيقطعون بينه وبين الله بقطع سبيل الله.
الاتباع لرسول الله r فيما شرع:
قال تعالى: )قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ( أي تزينوا بزينتي يحببكم الله ، فإن الله يحب الجمال ، فتزين تارة بنعتك من ذل وافتقار ، وخشوع وخضوع ، وسجود وركوع ، وتارة بنعته عز وجل من كرم ولطف ورأفة ، وتجاوز وعفو وصفح ، ومغفرة وغير ذلك ، مما هو لله من زينة الله التي ما حرمها الله على عباده ، فإذا كنت بهذه المثابة أحبك الله.
واعلم أن لله محبتين أو تعلقين ، محبته لعباده الذي هو خصوص إرادة ، التعلق الأول حبه إياهم ابتداء ، بذلك الحب وفقهم للتباع ، اتباع رسله سلام الله على جميعهم ، ثم انتج لهم ذلك الاتباع تعلقين من المحبة ، لأن الاتباع وقع من طريقين : من جهة أداء الفرائض ، والتعلق الأخر من جهة ملازمة النوافل ، قال رسول الله فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال الحديث وفيه ( وما تقرب إلىّ عبدي بشيء أحب إلىّ من أداء ما افترضته عليه ، ولا يزال عبدي يتقرب إلىّ بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعاً وبصراً ويداً ومؤيداً ) وإذا كان الحق سمع العبد وقواه في النوافل ، فكيف بالحب الذي يكون من الحق له بأداء الفرائض.
إرسال تعليق Blogger Facebook