4/11/2013 -


أصبح انتقاد الكلمات أو المصطلحات المنتهية بلاحقة omics «ــوميات» موضة مؤخرًا. ففي السنة الماضية، نشرت صحيفتا «نيويورك تايمز»، و«وول ستريت جورنال» مقالات تسخر من انتشار الكلمات العلمية المنتهية بلاحقة «ــوم» ome، التي بلغ عددها الآن آلافًا. ابتكر أحد العلماء مُولِّدًا سيئًا للاحقات الـ«ــوميات»، يضيف اللاحقة عشوائيًّا إلى قائمة من المصطلحات البيولوجية، منتجًا عناوين غريبة لأبحاث علمية (مثلاً: «فك متتابعات ـ بكتيرياستاتيكوم ـ جينوم كابحات الجراثيم يظهر تبصرًا عميقًا بالتطور والبيئة»). ويعلن جوناثان أيسن ـ عالِم الأحياء المجهرية بجامعة كاليفورنيا في ديڤيز ـ بانتظام عن جوائز لإضافات غير ضرورية إلى المفردات العلمية في مدوّنته (أحدث الكلمات الفائزة: «سركاديأوميات» CircadiOmics، وتعني منظومة جينات منخرطة في النظام اليومي للساعة البيولوجية).
لم يكن لدى عالِم النبات هانز وينكلر أدنى فكرة عما كان يستهله في عام 1920، عندما اقترح استعمال مصطح «جينوم»؛ للإشارة إلى مجموعة صبغيّات (كروموزومات). لقد كانت هناك مصطلحات مشابهة آنذاك، مثل biome أي «حيوم»، (مجموعة من الكائنات الحية) وجذمور/ ريزومة (منظومة الجذور)، وكثير من هذه التسميات يستند إلى اللاحقة اليونانية (ome)، وتعني تقريبًا «ذات طبيعة ..»، لكن الهالة الساحرة التي اكتسبتها مبادرات باهظة التكاليف لدراسة «الجينوم»، كمشروع الجينوم البشري، هي التي حددت فيما بعد اتجاه الحركة، بحسب أليكسا ماكريه، عالِمة اللسانيّات والمعلوماتية الطبية بكلية طب جامعة هارفارد في بوسطن، ماساشوستس، التي تقول: و«بفضل استخدام هذه اللاحقة، تقول إنك جزء من علم جديد مثير».
وحسب قول أيزن، يدرك الباحثون القدرة التسويقية للمقطع اللفظي المُلْهِم. فـ«الناس تقول إنه مجال مستقل بذاته، وإنه جدير بوكالة تمويل تخصه وحده». وبرغم كون بعض هذه الكلمات تدعو إلى الدهشة، مثل ميوزيومكس (جينومات المتاحف) museomics، (مشاريع دراسة التسلسل الجينومي للعينات المحفوظة)، وأخرى لا يمكن أخذها على محمل الجدّ، مثل جينومات الأهداب الخلوية ـ سيليومكس ciliomics (دراسة النتوءات المتلوية شبه الهدبية في بعض الخلايا) ـ إلا أن العلماء يصرّون على أن دراسة بعض هذه الـ«ـوميات» على الأقل ستخدم غرضًا جيدًا. يقول يوجين كولكر، مسؤول البيانات الرئيس في مستشفى سياتل للأطفال في واشنطن، والمحرر المؤسس لمجلة «أوميكس» Omics: «لا شك أن معظمها لن يكون له معنى، وبعضها الآخر سيكون له معنى. ولذا.. يجب إيجاد نقطة التوازن». وأضاف: «إذا كنا نسخر فقط من التعبيرات الجديدة المختلفة، فذلك ليس أمرًا جيدًا».
ومن الناحية المثالية، يساعد إضفاء علامة مميزة لمجال ما ـ كأبحاث الـ«ــوم» ـ على تشجيع الأفكار الخلاّقة، وتحديد أسئلة البحث، وإلهام المناهج التحليلية لمعالجتها (انظر «ساخنة أم باردة»). يقول مارك جِرستَين، عالم الأحياء الحسابي بجامعة ييل في نيو هيڤن، ولاية كونيتيكت: «أعتقد أن «ــوم» لاحقة مهمة جدًّا. إنها دعوة واضحة لدراسة علم الجينوم». ويتابع: «إنها مفهوم كل شيء. إنها الشيء الذي نجده ملهِمًا». وهنا، تلقي «نيتشر» نظرة على خمسة من تعبيرات الـ«ــوم»، يُتوقَّع لها النجاح، وتمثل آفاقا علمية جديدة في طريقها إلينا.

كبر الصورة

جينوم المصادفة

قبل عدة سنوات من التوصل إلى فك متتابعات الجينوم عالي الإنتاجية، الذي جعل التوصل إلى الجينوم الشخصي حقيقة واقعة، صاغَ إيزاك كوهين ـ الذي كان يدرُس المعلوماتية الطبيّة بمستشفى بوسطن للأطفال ـ مصطلح جينوم المصادفة (incidentalome) كتحذير. فالكمّ الهائل من المعلومات الوراثية المتاحة ـ كما تنبّأ في مقال1 نُشر في عام 2006 ـ ستشكّل يومًا ما تحدِّيًا للطب.
ينحدر هذا المصطلح الجديد من مصطلح «ورم المصادفة» incidentaloma، التعبير الدارج الذي يتداوله علماء الأشعة، للإشارة إلى ورم بلا أعراض يظهر أثناء فحص الأطباء لمريض، في سياق مشكلات صحية أخرى. ويصف جينوم المصادفة ما يكافئ تحليلات الجينوم البشري: معلومات جينية، لا أحد يبحث عنها. فقد يؤدي البحث عن سبب وراثي لفقدان السمع ـ عند طفل مثلاً ـ إلى العثور على تلميحات بمشكلة في القلب، أو لارتفاع مخاطر الإصابة بالسرطان في المستقبل. فماذا ينبغي أن يُقال، ولمن، ومتى يجب قوله؟. في عصرٍ تتوالى فيه كشوف متتابعات الجينوم البشري أكثر فأكثر، يطرح المعهد الوطني لأبحاث الجينوم البشري في بَثيسدا، مِيريلاند، مسألة (ما الذي يمكن قوله للأفراد عن الحمض النووي الخاص بهم)، ويعتبرها «إحدى أكثر القضايا الأخلاقية تعقيدًا، التي تواجه باحثي الجينوميات».
وكشفت دراسة نُشرت في العام الماضي2 عن حجم هذه المعضلة. فقد استطلعت آراء 16 عالمًا في الوراثة حول طفرات جينية تحدث في 99 حالة وراثية شائعة، قد تظهر لدى فك المتتابعات واسع النطاق، سواء أكان الطبيب يبحث عنها، أم لا. وأوصى جميع العلماء المستطلعين بإعلام البالغين من المرضى عن الأمر في حوالي 21 حالة أو جينًا، بما في ذلك متغايرات المتتابعات الوراثية، المعروفة جيدًا بارتباطها بأنواع من السرطان وعدم انتظام القلب، لكن 10 فقط من 16 عالمًا أوصوا باتباع الأسلوب نفسه مع المصابين بمرض هنتنجتون ـ حالة قاتلة، لا علاج لها ـ وكان هناك توافق ضئيل نسبيًّا في الآراء المتعلّقة بالطفرات الأكثر غموضًا، أو عمّا ينبغي قوله لأهل الأطفال عندما يظهر المتغاير الجيني في متتابعات جينومات أطفالهم.
إن أكبر مشكلة في جينوم المصادفة هي أن أحدًا لا يعرف ما الذي تعنيه معظم تغايرات المتتابعات بالنسبة إلى الحالة الصحية، بينما هناك أكثر من 3 ملايين متغاير في كل جينوم بشري. تعمل ويندي تشونج ـ عالمة الوراثة الأكلينيكية بجامعة كولومبيا في نيويورك ـ على تطوير وسائل؛ لمساعدة المشاركين في البحوث والمرضى على اختيار النتائج الجينية التي يريدون معرفتها. كما تقوم أيضًا بقياس التأثيرات السلوكية والنفسية الاجتماعية لهذه المعلومات. تقول تشونج: «إذا سألت الناس عما يريدون معرفته عن تسلسل الحمض النووي لديهم، فالجميع سيقول ـ ابتداءً ـ نريد كل شيء، أو لا شيء». وتقول: «عندما يفكر الناس بعمق، تكون هناك ظلال رمادية في الأمر».
وبازدياد رواج وأهمية المتتابعات الجينومية إكلينيكيًّا، يفقد تعريف وحجم جينوم المصادفة وضوحه. ويجب أن يتوقع علماء الوراثة هذه النتائج التي يصعب التعامل معها، بحسب هولي تيبور، عالمة الاخلاقيات الحيوية بمستشفى سياتل للأطفال. تقول تيبور: «إنه أمر مضلل إلى حد ما أنْ نقول إن هناك نتائج عَرَضيّة من دراسة الجينوم. فنحن نعلم أنها ستكون موجودة».

الفينوم: خريطة أنماط الظواهر (الوراثية)

من السهل حاليًا الحصول على الجينوم البشري، ولكن الشيء المفقود هو كيفية ظهور الجينوم، أي الفينوم: الوصف الشامل والدقيق لكافة المواصفات الجسدية والسلوكية للشخص، أي خريطة أنماط الظواهر الوراثية. ولعل أكثر ما يرغب الباحثون بمعرفته عن ذلك الجزء المتعلق بالمرض من المظهر الجينومي للإنسان: تشوهات الوجه، وتشوهات الأطراف، وما إذا تم تشخيص الإصابة بالاكتئاب، وكيفية ذلك. وهم يرغبون في الحصول على تلك الأوصاف في شكل تتمكن أجهزة الحاسوب من قراءته، وهو الشكل الأفضل الذي سيمكّنهم من الربط بين الصفات المظهرية والجينومات. يقول بيتر روبنسون، عالِم الأحياء الحسابي بالمستشفى الجامعي الخيري في برلين، الذي يعمل على توحيد هذه الأوصاف الجسمية: «لا أعرف كلمة أو عبارة أخرى يمكننا استعمالها لنقل هذه الفكرة بشكل أفضل».
لقد شقّت مشروعات جينوم الظواهر (الجينومية) طريقها بالفعل بالنسبة إلى الفئران والجرذان، والخمائر، والسمك المخطط (شبيه حمار الوحش) ونبات رشاد أذن الفأر. وبجهد ممنهج لأقصى حد ممكن، يعْمد العلماء إلى إزالة الجينات، واحدًا تلو الآخر، ثم وضع الكائنات بعناية في سلسلة من القياسات والاختبارات البدنية؛ لمعرفة كيف يمكن للجينات إضفاء الشكل الجسمي الخارجي، وكيف تؤثّر على التمثيل الغذائي والسلوك. إن بيانات شاملة كهذه لم يكن الحصول عليها ممكنًا للجينات البشرية، ولكن بعض الباحثين الإكلينيكيين يأملون في تجميع مورد جزئي لها عن طريق الجمع الدقيق لبيانات المرضى.
وبالنسبة إلى الأمراض الوراثية الـ«مندلية» ـ التي تحدث بسبب تحوّر (طفري) في جين واحد ـ يُعتبر إجراء مطابقة بين المرض والجين تحديًا.. فمن بين أكثر من 6 آلاف اضطراب نادر قابل للتوريث، أمكن ربط أقل من نصفها بسبب وراثي. ولعل أحد أصعب الأجزاء هو العثور على عدد كافٍ من المرضى المصابين بحالات كهذه، التي قد تحدث لدى أقل من شخص واحد في المليون. يقول مايكل بَمشَد، عالم الوراثة بجامعة واشنطن في سياتل: «ربما تمكنّا من حل ألغاز معظم الاضطرابات المندلية غير معروفة السبب، لو أمكننا الوصول إلى ما يكفي من الحالات المُنمَّطة ظاهريًّا بشكل جيد».
والسؤال الآن: كيف يمكن جمع تلك الحالات؟ كثير من جماعات البحوث والأمراض لديها بالفعل منذ وقت طويل أدواتها المعلوماتية الخاصة بها ومفرداتها المستعملة لوصف التفاصيل المظهرية الدقيقة لمختلف الاضطرابات. ويكمن التحدي في تشغيل هذه الموارد معًا. وإذا قام أحد الأطباء بإيراد مصطلح «ألم مَعِديّ»، وأورد طبيب آخر مصطلح «التهاب المعدة والأمعاء»، ربما لن يتم وضع المرضى الذين يعانون من أعراض متشابهة جدًّا في مجموعة واحدة، حسب قول ريتشارد كَـتُن، عالِم الوراثة بجامعة ملبورن في أستراليا.
في نوفمبر الماضي، كان كَتُن واحدًا ضمن أفراد عديدين أبدوا اهتمامًا بالأمر ـ إلى جانب جهات أبدت اهتمامها كذلك ـ وتوجهوا إلى سان فرانسيسكو، كاليفورنيا؛ لحضور اجتماع، أطلق عليه اسم «الاستعداد لمشروع الفينوم البشري». كان الهدف الرئيس من الاجتماع تسهيل تبادل بيانات أنماط الظواهر الوراثية. وكان هناك اتحاد يركّز على الأمراض النادرة ـ يُسمى بالشبكة النادرة «أورفانت» ـ يقود الجهود الرامية إلى الحصول على موافقة الأطباء والعلماء على حوالي (1000 ـ 2000) تعبير قياسي، مثل «قصر القامة»، التي يمكن أيضًا أن تصنف على أنها «نقص طول الجسم»، و«شريحة أقصر %3 من السكان»، و«القامة الصغيرة». تقول إيدا هامُش، عالمة الوراثة الإكلينيكية بكلية طب جامعة جونز هوبكنز، بالتيمور، ميريلاند: «إذا وافقتم على المصطلحات، بغضّ النظر عن الشكل الذي لديكم؛ فسيمكننا جميعًا الحديث عن الأمور المتفَق على تسميتها».
يحاول باحثون آخرون إطلاق المعلومات الموجودة في السجلّات الطبية الإلكترونية، التي كثيرًا ما تكون ذات طبيعة خاصة، بحيث تتمكن لوغاريثمات الحاسوب من تفنيدها، وتصنيف الظواهر النمطيّة المشتركة بينها أتوماتيكيًّا. وبدوره، يقول كوهين: «إن البيانات قبيحة ومتناثرة، وسيحوَل السِّحْرُ (العِلْم) نفايات المعادن إلى ذهب».

إنترْآكتوم: خريطة التفاعلات والتأثير

يتألف المبدأ المركزي للبيولوجيا أساسًا من قائمة أجزاء. فالحمض النووي يرمّز الحمض الريبي النووي، الذي يرمز بدوره البروتين. وهذا قد يعطيك ثلاث «ـومات» أساسية (جينوم، ترانسكربتوم أو منظومة المُنْتَسخات، بروتيوم)، لكن الحيوية لا تحدث، إلا لأن هذه الأجزاء تعمل معًا. وتسبّب الخلايا العصبية انطلاق الإشارات، وتنقسم الخلايا، أو تموت، بسبب التفاعل بين الجزيئات، أو التأثر بها. وتقدم خريطة التفاعل والـتأثر ـ إنترآكتوم interactome ـ وصفًا لكل تلك التفاعلات الجزيئية. ومن حيث التعقيد، يمكن اعتباره الإنترآكتوم ملك الـ«ـومات». فإذا وضعنا في الاعتبار إمكانية حدوث تفاعل واحد بين كل اثنين مما يقرب من 20 ألف بروتين؛ فسنحصل على 200 مليون احتمال.
وهذا المجال غير مثبط بالنسبة إلى الباحثين، أمثال فيدال مارك. وقبل تقاعده، يأمل عالم بيولوجيا الأنظمة الحيوية ـ البالغ خمسين عامًا، ويعمل بمعهد دانا فاربر للسرطان في بوسطن ـ أن يرى المسوّدة الأولى لكافة التفاعلات التي يشفرها الجينوم. وسيكون في الواقع سعيدًا بتوفّر مجموعة تفاعلات جزئية، ككتالوج لجميع البروتينات التي تصطف معًا كأزواج. وأضاف: «هذا ما كنا نفعله في السنوات العشرين الماضية، وقد شارفنا الآن على الوصول إلى النتيجة».
وبقوله «شارفنا»، يقصد فيدال أن مختبره وبعض المختبرات الأخرى قد راقبت 10ـ%15 من التفاعلات بين البروتينات لدى الإنسان، استنادًا إلى دراسات الخلايا التي تمت هندستها وراثيًّا، بحيث تصدر إشارة عندما يأتي زوج من البروتينات معًا. وقد حاول باحثون آخرون التوصل إلى الهدف نفسه، عن طريق استخلاص البروتينات من خلايا مسحوقة، وتتبُّع البروتينات الأخرى التي ستلتحق بها، والبحث في المدوّنات العلمية، وإجراء التوقّعات الحاسوبية، استنادًا إلى أشكال البروتينات، وسلوك الجزيئات ذات الصلة.
ساعد ذلك في أنّ بعد أكثر من عقد من الزمان على دراسة منظومة التفاعل الواسعة النطاق3، أنْ بدأ الباحثون أخيرًا في الحصول على مؤشر يميز بين التفاعلات الحقيقية والتجريبية التي لوحظت. وللتمكن من تمييز هذه التفاعلات، يتطلب الأمر متابعة التفاعل نفسه باستخدام عدة تقنيات4. ولا تحتاج القوائم الاكتمال لكي تكون مفيدة. وقد بدأ علماء الأحياء فعلًا الاستعانة بمنظومة التفاعلات ـ الإنتراكتوم.
وقام هايْيُوان يو، عالِم بيولوجية الأنظمة الحيوية بجامعة كورنيل في إيثاكا، نيويورك، باختبار حوالي 18 مليون زوج بروتيني محتمل، وتمشيط قواعد بيانات التفاعل الموضوعة، واستطاع في نهاية المطاف تحديد 20,614 تفاعلاً فيما بين 7401 بروتين بشري. وفي حوالي خُمْس هذه التفاعلات البينية، تولّد لدى فريق العمل شعور جيد بأجزاء هذه البروتينات التي قامت بالاتصال5. وأظهر يو وزملاؤه ارتفاع إمكانية وجود الطفرات المسببة للمرض على نقاط الاتصال هذه، مقارنةً بأي موضع آخر من البروتينات. فمثلا، تحدث متلازمة اضطراب الدم «ويسكوت ألدريتش»، بسبب طفرات في بروتين يسمى WASP، لكن بسبب طفرات تتموضع في منطقة تتفاعل مع بروتين آخر يسمى VASP. يقول يو إن الأنماط التي لا تعطي أي معنى من الناحية الجينية، يمكن أن تصبح ذات معنى عند النظر إليها من حيث التفاعلات.
ويعتقد فيدال في إمكانية وضع المعلومات المتطورة على نحو متزايد ضمن طبقات في خريطة التفاعلات «إنترآكتوم». أولاً: ستأتي الشبكات الأساسية المستكملة تمامًا: قوائم البروتينات وشريكاتها المقيدة، مع تعليق عليها بحسب أنواع الخلايا في أفضل الأحوال. وتأتي بعدها بيانات وصفية، كمدة استمرار التفاعل، والظروف اللازمة لها، وأجزاء البروتينات التي تقوم بالاتصال.
ويتخيل فيدال يومًا لا يكتفي الأطباء المشخِّصون فيه بوضع جينوم المريض فحسب في اعتبارهم، بل بعواقب كافة تغيرات متتابعاته على خريطة التفاعل (إنترآكتوم)، ناهيك عن تأثيرات الإنترآكتوم على خريطة أنماط الظواهر الوراثية (الفينوم). فالجينومات ـ في النهاية ـ ثابتة عمومًا، حسب قول تري إيديكر، عالِم بيولوجيا الأنظمة بجامعة كاليفورنيا، سان دييجو، الذي يتابع بقوله: «لا يحدث اضطراب في متتابعات الجينوم، بسبب أدوية، أو أنسجة، أو غيرها من الظروف.. فالإنترآكتومات هي التي تضطرب».

التوكسوم: خريطة السُّمِّيَّات

يريد توماس هارتونج أن يحيط علمًا بكافة الطرق التي تمكِّن الجزيئات الصغيرة من أن تؤذيك. لذلك.. قام بتنظيم مشروع «خريطة السميات» Toxome الضارّة بالإنسان، الذي رصدت معاهد الصحة القومية الأمريكية لتمويله 6 ملايين دولار على مدى خمس سنوات، إلى جانب دعم إضافي من وكالة حماية البيئة، وهيئة الغذاء والدواء. يقول تونج إن لاحقة الـ«ـوم» تناسب حجم الهدف الذي يسعى وراءہ، وهو وصف كل العمليات الخلوية المسؤولة عن السميّة. يقول هارتونج، عالم السميات بكلية بلومبرج للصحة العامة بجامعة جونز هوبكنز في بالتيمور: «منظومة السموم مشابهة جدًّا لمشروع الجينوم البشري، لأنها تشكل نقطة مرجعية».
وتكلّف اختبارات السميّة في دراسة الحيوانات ملايين الدولارات لكلّ مركّب يدخل في سياق التجارب على الإنسان.ورغم ذلك.. تفشل اختبارات الحيوان أحيانًا في التنبؤ بدرجة السميّة بشريًّا. وهناك واحد أو اكثر من بين كل 6 أدوية يُسحب بسبب مشكلات السلامة التي تكتشف أثناء التجارب على الإنسان، حسب قول هارتونج.
يمكن لخريطة السميات المساعدة على وضع سلسلة من الفحوص الخلوية البسيطة التي قد تحل محل الاختبارات الحيوانية، وربما حسّنتها. إن تحديد العمليات المرتبطة بالسميّة التي تطلق المركبات المؤذية سيساعد العلماء أيضًا على تعديل عقاقير جديدة واعدة، أو جزيئات صناعية؛ لتصبح نسخًا أقل إضرارًا.
ولكي يبدأ العمل، يريد هارتونج أن يعرّض الخلايا للمواد الكيميائية السامة، ثم يرصد خريطة منظومة مركبات الأيض (المستقلبات) metabolomes الخاصة بها (تضم كافة الجزيئات الصغيرة ضمن الخلية) ومجموعة المُنتسخات transcriptomes التابعة لها. ويأمل هارتونج أن ينجح في تجميع تفاصيل مسارات الخلايا البشرية التي تعطّل الإشارات الهرمونية، وتُسمِّم خلايا الكبد، وتعطّل إيقاع القلب، أو تشكّل خطرًا على صحة الناس بطريقة ما. ويعتقد هارتونج أن إجمالي عدد المسارات ربما سيبلغ 200 مسار، وهو عدد يمكن تدبيره لإجراء اختبارات السميّة.
وما زال المشروع في أيامه الأولى، ويسعى للتأكد من أن الفحوص نفسها ستعطي النتائج ذاتها في مختبرات مختلفة. وفي نهاية المطاف، سيتاح استخدام تلك المسارات في الفحوص خلوية الأساس؛ لتكون بمثابة الدليل المرشد للسميّة. يقول يقول ديفيد جاكوبسُن كرام، الذي يقيّم الطرق التي تتيح توقع السميّة في إدارة الغذاء والدواء في سيلفر سبرينج، ميريلاند: «سنعرف إذا كنا قد أطلقنا أحد تلك المسارات أن أمرًا سيئًا سيحدث، وسنعرف ماذا سيكون هذا الحدث السلبي». ويحذّر جاكوبسن كرام من أن الجزيء الذي قد يبدو غير مؤذ للخلايا في المزرعة الخلوية قد يسلك سلوكًا مختلفًا في الجسم، إذا حوّله الكبد إلى مادة سامة. ويتابع الباحث بأنه مع ذلك، يمكن لمشروع الخريطة السمّية toxome أن يوفّر الوقت والمال والحيوانات. ويتساءل: «هل يمكنني الاعتقاد بأن هذا نموذج واعد؟». بالتأكيد «نعم».

إنتيجروم: خريطة تكامل المنظومات

يعتمد مفتاح فكّ غموض أسرار البيولوجيا على نحت خرائط (منظومات) جديدة بدرجة أقل من اعتماده على دمج المنظومات الموجودة فعلًا، حسب قول كولكر. ويضيف: «إن نهجًا واحدًا لن يحلّ الغموض». ادخل إلى مجال المنظومة المتكاملة: ضع جميع المنظومات معًا في بوتقة واحدة؛ لإجراء تحليل متكامل لها، إلى جانب أي بيانات أخرى ذات صلة لإجادة المقايسة. ويرى كولكر أن «هذه هي الطريقة الحقيقية للمعالجة، وستكتسب أهمية أكبر».
فكّر في خرائط «جوجل».. فالقوائم المنفصلة من محطات الوقود، والمطاعم وأسماء الشوارع أقل فائدة من خريطة واحدة تُظْهِر مكان محطة وقود معينة على الشارع نفسه، الذي يوجد فيه مطعم معين. وهناك عديد من دراسات خرائط المنظومات omics التقليدية تتوقف عند حدود تشكيل القوائم، كقوائم الجينات والبروتينات، أو مُنْتَسخات الحمض النووي الريبي. ويمكن لهذه القوائم أن تتجاهل الشبكات، وهكذا فإنها لن تتمكن من الكشف، مثلًا، عن أن التغيرات في الجينات المتباينة تلتقي في الواقع على المسار نفسه.
وقد أظهر إيديكر أنه من الممكن تحليل المنظومات البيانات المتباينة أوتوماتيكيًا6. وقد ابتكر برنامجًا، تمكّن من استنباط أنماط أربع مجموعات من بيانات كهذه، ثم استخدم النتائج للتوصّل بصورة مستقلة إلى معرفة ما الذي كانت تفعله الجينات ذات الصلة. ولم يكتف البرنامج بتلخيص أجزاء من موارد الجينوم الموجودة (مثل تحديد مكوّنات الآليات الخلوية التي تساعد على التخلّص من البروتينات المستهلكة)، لكنه بدأ في ملء الفجوات، من خلال إيجاد أنماط مماثلة من التنظيمات للجينات ذات الوظائف المعروفة. يقول إيديكر: «لقد تمعنّا في بيانات منظومات المنتسخات والتفاعلات؛ واستنتجنا كامل البنية الهرمية لمكوّنات الخليّة». ويضيف: «منذ وقت طويل جدًّا وأنا أكثر حماسًا لهذه التقنية، أكثر من حماسي لأي شيء آخر». إن لوغاريثمات كهذه لن تحلّ محلّ منسقي البيانات البشرية، ولكنها ستتمكن من التقاط الأنماط التي لن يتمكن البشر من التقاطها، ولا البرامج المُستنبِطة للنصوص التي تستطلع العلاقات بين الأبحاث المنشورة، كما يقول إيديكر. «الخلايا لا تتحدث اللغة الإنجليزية، بل تنطق بالبيانات».

كبر الصورة
شكر لجونثان إسيان، ميك واتسون وألكسا مكريه
في العام الماضي، نشر مايكل سنايدر، عالِم الوراثة بجامعة ستانفورد، بولاية كاليفورنيا، المنظومة (الخريطة) التكاملية الخاصة به7 (رغم أنه وصفها بـ«بروفايل منظومات «أوميكس» شخصي تكاملي»، وسمّاها غيرُه المنظومة «النرجسية»، إذ تجمع بين بيانات الجينوم ومنظومة المُنْتَسخات والبروتيوم، ومنظومة المستقلبات (الأيضيات) الخاصة به، (انظر: «نيتشر» http://doi.org/hrq؛ 2012). وكشفت بيانات الجينوم الشخصية أن سنايدر كان معرّضا لإمكانية الإصابة بمرض السكري، وأثناء إجراء الدراسة تم فعلًا تشخيص إصابته بالمرض، وقاوم عدوى فيروسين، كانا قد انعكسا في شكل زيادة نشاط الجينات المرتبطة بالالتهاب. كما كشفت المنظومات أيضًا عن تغييرات في مسارات لم تترافق فيما مضى مع مرض السكري، أو العدوى، حسب قول سنايدر، الذي يتابع بقوله: «لو كنت قد تتبعت منظومة المُنْتَسخات أو البروتيوم؛ لحصلت على جزء فقط من الصورة».
ويوافق جيرشتاين على أن مجموعات البيانات المتكاملة هي الطريق إلى الأمام.. فـ«المستقبل سيضع هذه الأشياء معًا في شبكة عمل؛ من أجل فهم الجينومات الشخصية». بيد أن تعبير «منظومة (خريطة) التكامل» ـ إنتيجروم كتعبير ـ لا أجدها مناسبة هنا. ويتابع بقوله: «ما هي منظومة التكامل؟ هل هي كافة التكاملات؟ لا أعتقد». ويمضي مفسرًا: ««يتكامل» فِعْل. ومعظم المنظومات الأخرى هي مجموعة أسماء».
وضعت مَكريى بعض القواعد العامة بما يجعل منظومة ما ذات فائدة: أن يكون لها معنى، ووقع جيد على السمع، وأن تكون سهلة الفهم بين أوساط المتعلمين. (انظر: «الجيد، والرديء، والقبيح»). ومن غير المرجّح أن ينتبه عديد من العلماء لهذه القواعد. إن تكاثر الكلمات يعكس ببساطة تسارع إيقاع العلم، كما تقول مكريى. فاللغة تتغير ببطء عادة، لكن الانتشار السريع للكلمات التي تنتهي بلاحقة «ــوم»، و«أوميكس» يوجز في عقد من الزمن ما يستغرق نصف قرن في الأحوال الطبيعية. إنها توجّه الحديث إلى المهتمين بالأمر، وإلى الجهات التي يمكنها تمويل الأبحاث في هذا المجال». 

المصدر

إرسال تعليق Blogger

 
Top