يُصِرّ دانيال بولي على أن البيانات الوحيدة المتاحة لمعظم مصائد السمك تتمثل في وزن السمك الذي يتم اصطياده كل عام.
في الدول المتقدمة ـ مثل الولايات المتحدة، وأستراليا، والدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي ـ يراقب علماء مصائد السمك كثيرًا من مصائد السمك باستخدام تقييمات المخزون باهظة الكلفة. وللاستدلال على حجم أعداد السمك المستثمَر، يستخدم العلماء عُمْر السمك الذي يتم اصطياده، وحجم توزيعاته، ونتائج الرصد العلمي الذي تجريه سفن الأبحاث، والمعلومات المتوفرة حول نمو الثروة السمكية وهجرة السمك، المستنتجة من دراسة الوَسْم، وإعادة الصيد. ومع ذلك.. فالبيانات الوحيدة التي يتم جمعها وإتاحتها لمصائد السمك في حوالي 80% من جميع البلدان البحرية هي تقديرات أوزان السمك الذي يتم اصطياده كل عام. ومنذ عام 1950، نشرت منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (FAO) بيانات مصائد السمك هذه (التي جمعها أفراد مسؤولون في حوالي 200 دولة) في حوليّة منظمة الأغذية والزراعة FAO Yearbook التي تضم إحصائيات مصائد السمك وتربية الأحياء المائية.
ويدور الآن جدل بين علماء مصائد السمك حول الحكمة من استخدام بيانات الصيد لتقييم صحة مصائد السمك. إنني موافق على ضرورة استخدام بيانات الصيد بعناية، لكن الخلاف الحالي يوجّه رسالة إلى واضعي السياسات، مفادها أن هذه البيانات محدودة الفائدة. وإذا كانت البلدان ـ النامية منها على وجه الخصوص ـ ستبدأ في إنقاص الموارد المخصّصة لجمع بيانات الصيد، فإن فهمنا لمصائد السمك، بما في ذلك تأثيرها على النظم الإيكولوجية البحرية وأهميتها بالنسبة إلى الاقتصادات المحلية، سوف يلاقي مكابدة.
في عام 2001، تم تعديل طريقة منظمة الأغذية والزراعة من قبل عالِم مصائد السمك، راينر فروز، في مركز جيومار هيلمهولتز لأبحاث المحيط GEOMAR في كيل بألمانيا. وقد استعملنا معًا طريقةً معدّلةً؛ للحصول على مخطط حالة المخزون لكافة مصائد السمك في العالم، التي كانت بيانات صيدها متاحة (انظر «مخطط حالة المخزون»، وgo.nature.com/blfbma). وقد كشفت النتائج التي توصّلنا إليها عن وجود اتجاهات مماثلة لتلك التي أظهرتها دراسات منظمة الأغذية والزراعة: فقد استمر تناقص كميات المخزون بشكل مطّرد على مدى سنوات، وبحلول منتصف التسعينات كان 20% من المصائد المستغّلة في الخمسينات قد نضُب. ( لقد صنّفنا المصائد بأنها منهارة، إذا انخفض معدّل الصيد السنوي فيها إلى أقلّ من 10% من أعلى معدّل سجّل فيها على الإطلاق). ولسوء الحظ، أخذ هذا الأمر عشر سنوات أخرى، وظهر فيه ادّعاء مُضلَّل، قبل أن يتنبّه العالم للخطر.
في عام 2006، استخدمت مجموعة من الباحثين من مختلف المؤسسات مخطّط حالة المخزون؛ ليظهروا ـ من بين أمور أخرى ـ أن جميع المخزونات ستنهار في عام 2048 (المرجع 2). ومن غير المستغرَب أن هذا الإسقاط ـ برغم تشكيله جزءًا صغيرًا من هذه الدراسة ـ قد استدرج سيلاً من العناوين المثيرة: فقد ورد في «ناشيونال جيوجرافيك» هذا الخبر: «المأكولات البحرية قد تنتهي بحلول عام 2048،» وكتبت صحيفة «واشنطن بوست» هذا العنوان: «نهاية السَّمَك.. في مخطط واحد».
إن الدقة الغريبة في تحديد عام 2048، ومشابهتها لعنوان رواية جورج أورويل 1984 قد ولّدا موجةً واسعة النطاق من السخرية داخل مجتمع مصائد السمك. ونظرًا إلى العوامل العديدة التي يمكنها التأثير على الصيد ـ كالتحولات في السياسة، وارتفاع تكاليف الوقود، وتعطل الأسواق والكوارث الطبيعية ـ فإن توقّع مواقع مصائد السمك سيكون مستحيلًا، حتى بعد عشر سنوات من الآن. ولكن، مع اختلاف خطوط الهجوم التي استخدمها علماء مصائد السمك للتشكيك في البحث الصادر عام 2006، فقد اكتسبت إحدى التهم الموجهة إليه زخمًا منذ ذلك الحين، وألحقت بإدارة وعلوم البحار والمصائد ضررًا يفوق بكثير الضرر الذي أحدثه البحث الأصلي. ونعني بها الفكرة القائلة بأن بيانات الصيد ليست مفيدة لتحديد صحة مخزون الثروة السمكية. وهذا غير صحيح، بل لعلّه خطير جدًّا.
وعندما تكون بيانات الصيد فقط هي المتاحة، يمكن لباحثي مصائد السمك ـ لا، بل يجب عليهم ـ استخدام هذه البيانات؛ لاستنتاج حالة هذه المصائد، ولو بشكل مبدئي على الأقل3,4. وحتى عند إجراء عمليات تقييم المخزون أو المسوح العلمية، فإن معلومات كهذه ينبغي استخدامها دائمًا إلى جانب كلّ بيانات الصيد المتاحة. خذ على سبيل المثال.. انهار المخزون الكندي من سمك القدّ الشمالي بشكل غير متوقع في نيوفاوندلاند ولابرادور في وقت مبكر من تسعينات القرن العشرين، حتى عندما كان خبراء تقييم المخزون يراقبونه باستخدام أحدث ما وصلت إليه طرق وضع نموذج الوفرة5. وفي السنوات التي سبقت الانهيار، كان الصيادون يستخدمون الشباك المثبتَة في قاع البحر، أو قوارب الصيد، ولكن لأن القوارب يمكنها تتبّع السربَ متناقص الحجم، فقد بقي حجم الصيد مرتفعًا، حتى في الوقت الذي بدأ فيه صيادو الشِّباك في الحصول على كميات متناقصة باضّطراد من سمك القدّ. لقد كان خبراء تقييم المخزون يراقبون ما يحصل عليه صيادو قوارب الصيد فقط.
إن التشكيك في بيانات الصيد ينطوي على خطورة عرقلة الدراسة التحليلية، وقد يعوق الجهود المبذولة لتحسين جودة الإحصاءات السمكية في جميع أنحاء العالم. وبالنسبة إلى الغالبية العظمى من الأنواع، يمكن أن تبلغ كلفة خبراء تقييم المخزون ما بين 50.000 دولار أمريكي حتى ملايين الدولارات بالنسبة إلى كل مخزون، وخاصة عند مشاركة سفن الأبحاث. ولذا.. فإنها غالبًا ما لا تكون مُجدية. وإذا كانت حكومات البلدان النامية فقيرة الموارد ستصل إلى الاعتقاد بأن بيانات الصيد محدودة الفائدة؛ فلن يرى العالم المزيد من تقييمات المخزون؛ وسيتوقف جمع بيانات الصيد.
وبدلًا من التشكيك في جدوى بيانات الصيد في تقييم حجم المخزون، يجب على العلماء أن يحثّوا عددًا أكبر من الحكومات على جمعها (جنبًا إلى جنب مع البيانات الخاصة بجهود الصيد، والقيمة الاقتصادية للصيد، وتكاليف الصيد)، ووضع طرق مُجدية اقتصاديًّا؛ لتحسين موثوقيتها.
وكجزء من مبادرة «البحر من حولنا» The Sea Around Us ـ القائمة على تعاون بين جامعة كولومبيا البريطانية في فانكوفر، كندا، والصناديق الخيرية لبيو The Pew Charitable Trusts ، التي تهدف إلى رصد أثر مصائد السمك على النظم الإيكولوجية البحرية ـ فإني أتولى شخصيًّا قيادة مشروع لتقييم كل بيانات الصيد التي جمعتها هيئة منظمة الأغذية والزراعة منذ عام 1950. وقد قام زملائي في الفريق حتى الآن بجمع معلومات عن استهلاك السمك، وأوزان السمك المستورد والمصدّر ـ على سبيل المثال ـ للتحقّق من بيانات الصيد في 180 بلدًا وجزيرة. وتشير النتائج التي توصّلنا إليها إلى أن حجم الصيد، مع استثناء ملحوظ للمصيد الصيني المحلّي، لا يجري التبليغ عنه بما يعادل نحو 100-500% في العديد من البلدان النامية6، وبما يعادل 30-50% في البلدان المتقدمة7.
وفي حين يتابع باحثو مصائد السمك النقاش المهم حول مصائد السمك التي تعاني من تراجع إنتاجها، وأسبابه، ومداه، فإن معظم الصيادين في جميع أنحاء العالم يحصلون على كميات أقلّ من السمك، مقارنةً بأسلافهم. إن معرفة الكميات التي يتم اصطيادها من المحيطات سنويًّا أمرٌ حاسم لمعرفة السبيل إلى عكس هذا التناقص.
يحذِّر كلٌّ من راي هيلبورن، وتريفور إي برانش من أنّ هناك عوامل كثيرة ـ بالإضافة إلى وفرة ما يحصل عليه صائدو السمك ـ تسهم في تحديد حجم الصيد.
إن قاعدة البيانات الرئيسة المتوفرة عن مصائد السمك في جميع أنحاء العالم هي حوليّة منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) FAO Yearbook ، إحصائيات مصائد السمك وتربية الأحياء المائية. فهي تجمع أوزان سمك الحدوق، والأبراميس، وسمك القدّ، وأكثر من 1000 نوع آخر يتم اصطيادها كل عام، سواء بواسطة سفن الصيد التجارية، أو القوارب، وذلك باستخدام تقديرات تم إرسالها من قِبَل أفراد مسؤولين من كل بلد.
وعلى مدى السنوات القليلة الماضية، عكف الباحثون على إجراء تحليلاتٍ لاستخدام هذه البيانات؛ من أجل تقييم صحة مخزون السمك في العالم. وقد نشروا نتائجها في مجلات علمية عالية التأثير، بما فيها هذه المجلة. وهذه التقييمات تتغاضى باستمرار عن حقيقة أن كمية السمك التي يتم صيدها لا تعبّر بالضرورة عن أعداد السمك المتوفّر في البحر.
وقد سبّبت محاولات استخدام بيانات الصيد ـ كمؤشّر على وفرة السمك ـ في إطلاق جرس إنذار، وأثارت لغطًا وارتباكًا في أوساط واضعي السياسات، كما ولّدت وعيًا لدى الجمهور ومنظمات الحفاظ على البيئة بفشل إدارة مصائد السمك. ولعلّه من الأفضل كثيرًا أن يتمّ الاستدلال على صحة المخزون في كل منطقة، وفي كل مصيدة سمك على حدة، باستخدام التقييمات العلمية للمخزون، التي تجمع كافة أنواع البيانات.. من نتائج الاستقصاءات التي تجرى من سفن الأبحاث، إلى حجم الصيد في كل محاولة له، بالإضافة إلى التوزيعات العمرية والحجميّة للسمك الذي يتم صيده. وهذا التوجّه يمكنه أن يكشف عن استراتيجيات الإدارة الفعّالة عمليًّا.
وسرعان ما تلاه بحث آخر8، كتبه واضعو الدراسة الأصلية2 وبعض منتقديهم، وكنّا من بينهم. وقد أشار هذا البحث أن مصائد سمك عديدة في العالم ليست في حالة خطرة ،كالتي أشار إليها بحث عام 2048. وفي هذه الدراسة، قمنا بتحليل الاتجاهات المستقاة من دراسة مخزون المناطق التي تمت مراقبتها بدقّة من قبل وكالات الأبحاث8. وباستخدام بيانات تقييم المخزون، وجدنا أن عدد مناطق المخزون التي أصيبت بالانهيار على مدى العقدين السابقين قد ارتفع بالفعل، ولكن %14 فقط من بين 166 مخزونًا ـ تم إجراء دراسة تحليلية عليها ـ هي التي ستنهار في منتصف القرن الحالي. كما أن ثلثي هذه المخزونات ـ التي توجد في أوروبا وأمريكا الشمالية وأستراليا بشكل رئيس ـ تتسّم باستقرار أعداد السمك فيها، بسبب القيود المفروضة على الصيد، وبعضها كان قد ابتدأ مرحلة إعادة البناء.
لقد أدت توقعات بحث عام 2048، والجدل الذي انطلقت شرارته ضمن مجتمع مصائد السمك إلى هزّ ثقة جمعيات الحفاظ على البيئة في قدرة الحكومات على منع الصيد الجائر. وما هو أكثر تضليلاً ـ في رأينا ـ هو أحدث محاولة لتقييم جميع مخزونات السمك في العالم باستخدام بيانات الصيد.
إن مؤشّر صحّة المحيطات، الذي نُشر في مجلة «نيتشر» في العام الماضي9، يجمع معايير مختلفة، كالتنوع البيولوجي، ضمن درجة واحدةٍ يُفتَرض فيها أنْ تشير إلى مدى صحة البحار. ولحساب قدرة المحيطات على إنتاج الغذاء، قدّر الباحثون درجة الصيد القصوى المستدامة لمئة من أنواع المخزون المدروسة باستخدام نتائج تقييمات المخزون، ثم عمدوا إلى استخدام معادلة وُضِعت سابقًا لربط درجات الصيد القصوى المستدامة هذه بأعلى معدل صيد سُجِّل في أي وقت مضى لهذه الأنواع نفسها، وذلك لتقدير درجة الصيد القصوى المستدامة لكافة مصائد السمك الواردة في قاعدة بيانات منظمة الأغذية والزراعة.
كانت نتيجة التوقعات غير موثوقة إلى حدٍّ هائل. فمثلاً، بلغت أقصى إنتاجية مستدامة للكريل في القطب الشمالي ـ استنادًا إلى مؤشر صحة المحيط ـ 174 مرة أقلّ من الكمّية المقدّرة، بناءً على تقييمات المخزون التفصيلية التي أجرتها اللجنة الدولية للحفاظ على الموارد البحرية الحيّة في القطب الجنوبي10. وبشكلٍ عامّ، تفترض دراسة المؤشر الصحي ضمنًا أنّ بوسع الصيادين نظريًّا اصطياد عدّة أضعاف من كميات السمك البحري في حال كانت مصائد السمك تُدار بطريقة أفضل. وهذا يتناقض بشدّة مع نتائج دراسات أخرى عديدة، تفيد بأن الصيادين قد تمكّنوا بالفعل من اصطياد 80-96٪ من المنتَج العالمي المتوقع11,12.
تكمن الصعوبة الرئيسة في أن تناقص كميّة الصيد ـ مقارنةً بالأرقام المسجلة سابقًا ـ لا تعني بالضرورة أعدادًا أقل من السمك، والعكس بالعكس. فعلى سبيل المثال.. من الممكن أن يبدو 34 نوعًا من المخزونات الكبيرة على امتداد الساحل الغربي لولايتي أوريجون وواشنطن في الولايات المتحدة وكأنها قد انهارت، بناءً على بيانات الصيد الأخيرة13، ولكنّ الحقيقة هي أنّ ثلاثة أنواع فقط ـ وفقًا لتقييمات المخزون التفصيلية ـ (البلم «الأنشوفة»، واليلقون أو سمك الشمع، والصفيلح) هي التي انهارت فعلًا13.
يمكن لكميات الصيد أن تتغير بشكل هائل لعدة أسباب. فعلى سبيل المثال.. مالت الكميات التي تم اصطيادها من المخزونات على طول الساحل الغربي للولايات المتحدة إلى التناقص، بسبب الأسواق، أو بسبب صدور لوائح جديدة للصيد (انظر: «ما هو حجم الصيد؟»). كما يعتبر التغيّر في التصنيف سببًا آخر. ففي خمسينات القرن العشرين، تمّ تصنيف سمك القرش الذي تم اصطياده في جميع أنحاء العالم ضمن سبع مجموعات تصنيفية. وفي أوائل العقد الأول من القرن الحالي، تم اعتماد 36 مجموعة في قاعدة بيانات الصيد الخاصة بمنظمة الأغذية والزراعة. وربما تكون أعداد سمك القرش التي تم اصطيادها، والتي كانت مُصنّفة في المجموعات الأولى، قد تضاءلت، لا بسبب تناقص أعداد سمك القرش التي يتم اصطيادها، بل بسبب تسجيلها ضمن مجموعات مختلفة.
ويمكن أيضا لبيانات الكميّات التي تم صيدها أن تتأثر بتعديلات القوانين الوطنية، مثل توسيع حقوق الصيد الوطنية في معظم الدول إلى امتداد 200 ميل في المحيط في سبعينات وثمانينات القرن العشرين؛ والكوارث الطبيعية، مثل تسرب النفط من الناقلة إكسون فالديز Exxon Valdez، الذي سبّب إغلاق عديد من مصائد سمك السلمون في ألاسكا لمدة عام كامل؛ والحرب الأهلية، وارتفاع تكاليف الوقود، وانخفاض أسعار السمك. وتعتبر تغيّرات أنظمة الحكم أيضًا عاملًا مساهمًا كذلك.. فبعد تفكّك الاتحاد السوفيتي في عام 1991، كانت النتيجة العمليّة لفقدان الدعم الحكومي هي عدم التمكّن من تشغيل الآلاف من سفن الصيد.
إضافة إلى ذلك.. هناك عدد قليل من البلدان التي تراقب أيّ شيء بالصرامة ذاتها المتّبعة في الولايات المتحدة وداخل الاتحاد الأوروبي، إلا أكبر أو أهم مصائد السمك لديها من الناحية الاقتصادية. وفي معظم الحالات، يقوم المسؤولون ببساطة بتقديم أفضل تقديراتهم. حتى في الولايات المتحدة، حيث تخصّص الحكومة الفيدرالية حوالي 880 مليون دولار سنويًّا لوكالات مصائد السمك، يصعُب الحصول على بيانات صيد موثوقة للمخزونات صغيرة الحجم، مثل كلب السمك الشوكي.
هذا النهج يتغاضى عن النجاحات الهائلة لكثير من الاستراتيجيات الإدارية. فمثلًا، على الساحل الشرقي للولايات المتحدة ازداد إجمالي الموجود من سمك القاع، مثل السمك الأحمر، وسمك الحدوق، إلى أكثر من خمسة أضعافه بين عامي 1995 و2007 بعد تعزيز القيود على الصيد، ابتداءً من منتصف التسعينات. وإذا كانت بيانات الصيد الصادرة عن منظمة الأغذية والزراعة هي المصدر الوحيد لبيانات مصائد السمك، فإن علوم مصائد السمك ستحلّق معصوبة العينين، لكن التقييمات العلمية لاتجاهات وفرة السمك على مدى ثلاثة أو أربعة عقود عن مصائد السمك ـ التي تشكّل %40 من إجمالي عدد السمك الذي تم صيده في قاعدة بيانات منظمة الأغذية والزراعة العالمية ـ قد أصبحت الآن متاحة. هذه البيانات تأتي في معظمها من دول متقدمة (أمريكا الشمالية، وأوروبا، وأستراليا)، أو من المصائد الدولية الرئيسة، مثل مصائد سمك التونة.
إنّ البيانات المختلفة التي تجمعها الوكالات الوطنية لمصائد السمك، وشركات الصيد البحري، وعلماء البحار متاحةٌ أيضًا لبقية العالم. وحاليًا، لا توجد قاعدة بيانات عالمية لهذه المعلومات. ولقد بدأنا نحن (الكُتّاب) مؤخّرًا بالعمل مع أكثر من 20 دولة، ومنظمة الأغذية والزراعة، والبنك الدولي، في محاولة لتجميع قاعدة بيانات لعيّنة جيّدة من مصائد السمك في العالم. ونقدّر أن الحصول على هذا النوع من البيانات اللازمة لـ40 دولة (مع التركيز على 6-8 من مصائد السمك في كل بلد) سوف يستغرق 10 أعوام، ويتطّلب 20 مليون دولار أمريكي.
في الوقت نفسه، فإننا نحثّ الباحثين على استخدام كل البيانات المتاحة، إضافةً إلى قاعدة بيانات منظمة الأغذية والزراعة، والتحقّق من صحّة النتائج التي سيتوصلون إليها، عن طريق استشارة الخبراء المحلّيين، أو سواهم من مصادر البيانات. إن بيانات الصيد تشكل جزءًا حاسمًا من تقييم أيٍّ من مصائد السمك، ومن المستحيل حساب الوزن الأقصى للسمك الذي يمكن اصطياده على نحو مستدام، دون معرفة ما الذي يتم اصطياده كل عام، لكن بيانات الصيد ـ في حدّ ذاتها ـ لا يمكنها الإجابة على السؤال المركزي في علوم مصائد السمك، المتمثل في: ما هو عدد السمك في البحر؟
في الدول المتقدمة ـ مثل الولايات المتحدة، وأستراليا، والدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي ـ يراقب علماء مصائد السمك كثيرًا من مصائد السمك باستخدام تقييمات المخزون باهظة الكلفة. وللاستدلال على حجم أعداد السمك المستثمَر، يستخدم العلماء عُمْر السمك الذي يتم اصطياده، وحجم توزيعاته، ونتائج الرصد العلمي الذي تجريه سفن الأبحاث، والمعلومات المتوفرة حول نمو الثروة السمكية وهجرة السمك، المستنتجة من دراسة الوَسْم، وإعادة الصيد. ومع ذلك.. فالبيانات الوحيدة التي يتم جمعها وإتاحتها لمصائد السمك في حوالي 80% من جميع البلدان البحرية هي تقديرات أوزان السمك الذي يتم اصطياده كل عام. ومنذ عام 1950، نشرت منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (FAO) بيانات مصائد السمك هذه (التي جمعها أفراد مسؤولون في حوالي 200 دولة) في حوليّة منظمة الأغذية والزراعة FAO Yearbook التي تضم إحصائيات مصائد السمك وتربية الأحياء المائية.
ويدور الآن جدل بين علماء مصائد السمك حول الحكمة من استخدام بيانات الصيد لتقييم صحة مصائد السمك. إنني موافق على ضرورة استخدام بيانات الصيد بعناية، لكن الخلاف الحالي يوجّه رسالة إلى واضعي السياسات، مفادها أن هذه البيانات محدودة الفائدة. وإذا كانت البلدان ـ النامية منها على وجه الخصوص ـ ستبدأ في إنقاص الموارد المخصّصة لجمع بيانات الصيد، فإن فهمنا لمصائد السمك، بما في ذلك تأثيرها على النظم الإيكولوجية البحرية وأهميتها بالنسبة إلى الاقتصادات المحلية، سوف يلاقي مكابدة.
الخط البياني للمخزون
ينبع النقاش حول بيانات الصيد من النهج التحليلي الذي بدأته منظمة الأغذية والزراعة، وتم تطويره لاحقًا من قبل آخرين، وأنا أحدهم. في عام 1996، ابتكر باحثو منظمة الأغذية والزراعة ما أصبح يُعرف باسم الخط البياني للمخزون1. وتمكّن الباحثون من وضع مخطط لبيانات الصيد المستقاة من دراسة جيدة لـ400 من مصائد السمك على مدى فترة من الزمن، واستخدموا الخط البياني لتقدير المخزون من الفئات المختلفة، فالمصائد «المتطورة» هي التي تميزت بازدياد كميات الصيد، أمّا تلك «العتيقة»، التي أصابتها الشيخوخة، فهي التي تميزت بتدهور كميات الصيد فيها. وكان من المفترض أن تتيح الخطوط البيانية الناتجة معرفة إنتاجية المصائد منذ خمسينات القرن العشرين من خلال نظرة سريعة لها (كان إنتاجها سيئًا على ما يبدو).في عام 2001، تم تعديل طريقة منظمة الأغذية والزراعة من قبل عالِم مصائد السمك، راينر فروز، في مركز جيومار هيلمهولتز لأبحاث المحيط GEOMAR في كيل بألمانيا. وقد استعملنا معًا طريقةً معدّلةً؛ للحصول على مخطط حالة المخزون لكافة مصائد السمك في العالم، التي كانت بيانات صيدها متاحة (انظر «مخطط حالة المخزون»، وgo.nature.com/blfbma). وقد كشفت النتائج التي توصّلنا إليها عن وجود اتجاهات مماثلة لتلك التي أظهرتها دراسات منظمة الأغذية والزراعة: فقد استمر تناقص كميات المخزون بشكل مطّرد على مدى سنوات، وبحلول منتصف التسعينات كان 20% من المصائد المستغّلة في الخمسينات قد نضُب. ( لقد صنّفنا المصائد بأنها منهارة، إذا انخفض معدّل الصيد السنوي فيها إلى أقلّ من 10% من أعلى معدّل سجّل فيها على الإطلاق). ولسوء الحظ، أخذ هذا الأمر عشر سنوات أخرى، وظهر فيه ادّعاء مُضلَّل، قبل أن يتنبّه العالم للخطر.
في عام 2006، استخدمت مجموعة من الباحثين من مختلف المؤسسات مخطّط حالة المخزون؛ ليظهروا ـ من بين أمور أخرى ـ أن جميع المخزونات ستنهار في عام 2048 (المرجع 2). ومن غير المستغرَب أن هذا الإسقاط ـ برغم تشكيله جزءًا صغيرًا من هذه الدراسة ـ قد استدرج سيلاً من العناوين المثيرة: فقد ورد في «ناشيونال جيوجرافيك» هذا الخبر: «المأكولات البحرية قد تنتهي بحلول عام 2048،» وكتبت صحيفة «واشنطن بوست» هذا العنوان: «نهاية السَّمَك.. في مخطط واحد».
JEFFREY L. ROTMAN/GETTY
إن الدقة الغريبة في تحديد عام 2048، ومشابهتها لعنوان رواية جورج أورويل 1984 قد ولّدا موجةً واسعة النطاق من السخرية داخل مجتمع مصائد السمك. ونظرًا إلى العوامل العديدة التي يمكنها التأثير على الصيد ـ كالتحولات في السياسة، وارتفاع تكاليف الوقود، وتعطل الأسواق والكوارث الطبيعية ـ فإن توقّع مواقع مصائد السمك سيكون مستحيلًا، حتى بعد عشر سنوات من الآن. ولكن، مع اختلاف خطوط الهجوم التي استخدمها علماء مصائد السمك للتشكيك في البحث الصادر عام 2006، فقد اكتسبت إحدى التهم الموجهة إليه زخمًا منذ ذلك الحين، وألحقت بإدارة وعلوم البحار والمصائد ضررًا يفوق بكثير الضرر الذي أحدثه البحث الأصلي. ونعني بها الفكرة القائلة بأن بيانات الصيد ليست مفيدة لتحديد صحة مخزون الثروة السمكية. وهذا غير صحيح، بل لعلّه خطير جدًّا.
أهمية الأدلة
تراجعت على مدى العقدين الماضيين كمية السمك التي يتم اصطيادها من محيطات العالم. وهناك خلاف بين الأطراف المختلفة في مجتمع مصائد السمك على تفسير هذا التراجع، بالإضافة إلى الاعتراض على الأساليب المستخدمة لتصنيف المخزون ضمن فئات مختلفة، كالمصائد المنهارة، أو المستَغَلّة جزئيًّا. ولا جدال في أن حجم الصيد لا يتأثر فقط بوفرة السمك، فالعديد من العوامل ـ مثل تغيير الإدارة، أو القوانين ـ يمكنها أن تؤثر أيضًا على الكمية السنوية التي يتم اصطيادها من السمك. أمّا بالنسبة إلى الغالبية العظمى من الأنواع، فلا يوجد حتى أيّ مؤشّر على هذا التراجع من دون بيانات منظمة الأغذية والزراعة الخاصة بالصيد.وعندما تكون بيانات الصيد فقط هي المتاحة، يمكن لباحثي مصائد السمك ـ لا، بل يجب عليهم ـ استخدام هذه البيانات؛ لاستنتاج حالة هذه المصائد، ولو بشكل مبدئي على الأقل3,4. وحتى عند إجراء عمليات تقييم المخزون أو المسوح العلمية، فإن معلومات كهذه ينبغي استخدامها دائمًا إلى جانب كلّ بيانات الصيد المتاحة. خذ على سبيل المثال.. انهار المخزون الكندي من سمك القدّ الشمالي بشكل غير متوقع في نيوفاوندلاند ولابرادور في وقت مبكر من تسعينات القرن العشرين، حتى عندما كان خبراء تقييم المخزون يراقبونه باستخدام أحدث ما وصلت إليه طرق وضع نموذج الوفرة5. وفي السنوات التي سبقت الانهيار، كان الصيادون يستخدمون الشباك المثبتَة في قاع البحر، أو قوارب الصيد، ولكن لأن القوارب يمكنها تتبّع السربَ متناقص الحجم، فقد بقي حجم الصيد مرتفعًا، حتى في الوقت الذي بدأ فيه صيادو الشِّباك في الحصول على كميات متناقصة باضّطراد من سمك القدّ. لقد كان خبراء تقييم المخزون يراقبون ما يحصل عليه صيادو قوارب الصيد فقط.
إن التشكيك في بيانات الصيد ينطوي على خطورة عرقلة الدراسة التحليلية، وقد يعوق الجهود المبذولة لتحسين جودة الإحصاءات السمكية في جميع أنحاء العالم. وبالنسبة إلى الغالبية العظمى من الأنواع، يمكن أن تبلغ كلفة خبراء تقييم المخزون ما بين 50.000 دولار أمريكي حتى ملايين الدولارات بالنسبة إلى كل مخزون، وخاصة عند مشاركة سفن الأبحاث. ولذا.. فإنها غالبًا ما لا تكون مُجدية. وإذا كانت حكومات البلدان النامية فقيرة الموارد ستصل إلى الاعتقاد بأن بيانات الصيد محدودة الفائدة؛ فلن يرى العالم المزيد من تقييمات المخزون؛ وسيتوقف جمع بيانات الصيد.
وبدلًا من التشكيك في جدوى بيانات الصيد في تقييم حجم المخزون، يجب على العلماء أن يحثّوا عددًا أكبر من الحكومات على جمعها (جنبًا إلى جنب مع البيانات الخاصة بجهود الصيد، والقيمة الاقتصادية للصيد، وتكاليف الصيد)، ووضع طرق مُجدية اقتصاديًّا؛ لتحسين موثوقيتها.
وكجزء من مبادرة «البحر من حولنا» The Sea Around Us ـ القائمة على تعاون بين جامعة كولومبيا البريطانية في فانكوفر، كندا، والصناديق الخيرية لبيو The Pew Charitable Trusts ، التي تهدف إلى رصد أثر مصائد السمك على النظم الإيكولوجية البحرية ـ فإني أتولى شخصيًّا قيادة مشروع لتقييم كل بيانات الصيد التي جمعتها هيئة منظمة الأغذية والزراعة منذ عام 1950. وقد قام زملائي في الفريق حتى الآن بجمع معلومات عن استهلاك السمك، وأوزان السمك المستورد والمصدّر ـ على سبيل المثال ـ للتحقّق من بيانات الصيد في 180 بلدًا وجزيرة. وتشير النتائج التي توصّلنا إليها إلى أن حجم الصيد، مع استثناء ملحوظ للمصيد الصيني المحلّي، لا يجري التبليغ عنه بما يعادل نحو 100-500% في العديد من البلدان النامية6، وبما يعادل 30-50% في البلدان المتقدمة7.
وفي حين يتابع باحثو مصائد السمك النقاش المهم حول مصائد السمك التي تعاني من تراجع إنتاجها، وأسبابه، ومداه، فإن معظم الصيادين في جميع أنحاء العالم يحصلون على كميات أقلّ من السمك، مقارنةً بأسلافهم. إن معرفة الكميات التي يتم اصطيادها من المحيطات سنويًّا أمرٌ حاسم لمعرفة السبيل إلى عكس هذا التناقص.
الرأي المضادّ
لا، إنـه مضـلّل.يحذِّر كلٌّ من راي هيلبورن، وتريفور إي برانش من أنّ هناك عوامل كثيرة ـ بالإضافة إلى وفرة ما يحصل عليه صائدو السمك ـ تسهم في تحديد حجم الصيد.
إن قاعدة البيانات الرئيسة المتوفرة عن مصائد السمك في جميع أنحاء العالم هي حوليّة منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) FAO Yearbook ، إحصائيات مصائد السمك وتربية الأحياء المائية. فهي تجمع أوزان سمك الحدوق، والأبراميس، وسمك القدّ، وأكثر من 1000 نوع آخر يتم اصطيادها كل عام، سواء بواسطة سفن الصيد التجارية، أو القوارب، وذلك باستخدام تقديرات تم إرسالها من قِبَل أفراد مسؤولين من كل بلد.
وعلى مدى السنوات القليلة الماضية، عكف الباحثون على إجراء تحليلاتٍ لاستخدام هذه البيانات؛ من أجل تقييم صحة مخزون السمك في العالم. وقد نشروا نتائجها في مجلات علمية عالية التأثير، بما فيها هذه المجلة. وهذه التقييمات تتغاضى باستمرار عن حقيقة أن كمية السمك التي يتم صيدها لا تعبّر بالضرورة عن أعداد السمك المتوفّر في البحر.
وقد سبّبت محاولات استخدام بيانات الصيد ـ كمؤشّر على وفرة السمك ـ في إطلاق جرس إنذار، وأثارت لغطًا وارتباكًا في أوساط واضعي السياسات، كما ولّدت وعيًا لدى الجمهور ومنظمات الحفاظ على البيئة بفشل إدارة مصائد السمك. ولعلّه من الأفضل كثيرًا أن يتمّ الاستدلال على صحة المخزون في كل منطقة، وفي كل مصيدة سمك على حدة، باستخدام التقييمات العلمية للمخزون، التي تجمع كافة أنواع البيانات.. من نتائج الاستقصاءات التي تجرى من سفن الأبحاث، إلى حجم الصيد في كل محاولة له، بالإضافة إلى التوزيعات العمرية والحجميّة للسمك الذي يتم صيده. وهذا التوجّه يمكنه أن يكشف عن استراتيجيات الإدارة الفعّالة عمليًّا.
على حافّة الهاوية!
في عام 2006، أظهر باحثون أن جميع مصائد السمك في العالم ستنهار بحلول عام 2048 (المرجع 2). وقد صنّفت هذه المجموعة المخزون تحت اسم «المنهار» إذا كان إنتاجه السنوي أقل من 10% من أعلى طاقة إنتاجية سُجّلت له في أي وقت مضى8، وذلك بانتهاج أسلوب وضعه أفراد آخرون. وبالنسبة إلى الكثيرين منا في مجتمع مصائد السمك، كان من الصعب تصديق نظرية عام 2048؛ فقد كانت مصائد سمك السلمون في ألاسكا ـ على سبيل المثال ـ في وضع أفضل مما كانت عليه في مجمل تاريخ صناعة صيد السمك.وسرعان ما تلاه بحث آخر8، كتبه واضعو الدراسة الأصلية2 وبعض منتقديهم، وكنّا من بينهم. وقد أشار هذا البحث أن مصائد سمك عديدة في العالم ليست في حالة خطرة ،كالتي أشار إليها بحث عام 2048. وفي هذه الدراسة، قمنا بتحليل الاتجاهات المستقاة من دراسة مخزون المناطق التي تمت مراقبتها بدقّة من قبل وكالات الأبحاث8. وباستخدام بيانات تقييم المخزون، وجدنا أن عدد مناطق المخزون التي أصيبت بالانهيار على مدى العقدين السابقين قد ارتفع بالفعل، ولكن %14 فقط من بين 166 مخزونًا ـ تم إجراء دراسة تحليلية عليها ـ هي التي ستنهار في منتصف القرن الحالي. كما أن ثلثي هذه المخزونات ـ التي توجد في أوروبا وأمريكا الشمالية وأستراليا بشكل رئيس ـ تتسّم باستقرار أعداد السمك فيها، بسبب القيود المفروضة على الصيد، وبعضها كان قد ابتدأ مرحلة إعادة البناء.
لقد أدت توقعات بحث عام 2048، والجدل الذي انطلقت شرارته ضمن مجتمع مصائد السمك إلى هزّ ثقة جمعيات الحفاظ على البيئة في قدرة الحكومات على منع الصيد الجائر. وما هو أكثر تضليلاً ـ في رأينا ـ هو أحدث محاولة لتقييم جميع مخزونات السمك في العالم باستخدام بيانات الصيد.
إن مؤشّر صحّة المحيطات، الذي نُشر في مجلة «نيتشر» في العام الماضي9، يجمع معايير مختلفة، كالتنوع البيولوجي، ضمن درجة واحدةٍ يُفتَرض فيها أنْ تشير إلى مدى صحة البحار. ولحساب قدرة المحيطات على إنتاج الغذاء، قدّر الباحثون درجة الصيد القصوى المستدامة لمئة من أنواع المخزون المدروسة باستخدام نتائج تقييمات المخزون، ثم عمدوا إلى استخدام معادلة وُضِعت سابقًا لربط درجات الصيد القصوى المستدامة هذه بأعلى معدل صيد سُجِّل في أي وقت مضى لهذه الأنواع نفسها، وذلك لتقدير درجة الصيد القصوى المستدامة لكافة مصائد السمك الواردة في قاعدة بيانات منظمة الأغذية والزراعة.
كانت نتيجة التوقعات غير موثوقة إلى حدٍّ هائل. فمثلاً، بلغت أقصى إنتاجية مستدامة للكريل في القطب الشمالي ـ استنادًا إلى مؤشر صحة المحيط ـ 174 مرة أقلّ من الكمّية المقدّرة، بناءً على تقييمات المخزون التفصيلية التي أجرتها اللجنة الدولية للحفاظ على الموارد البحرية الحيّة في القطب الجنوبي10. وبشكلٍ عامّ، تفترض دراسة المؤشر الصحي ضمنًا أنّ بوسع الصيادين نظريًّا اصطياد عدّة أضعاف من كميات السمك البحري في حال كانت مصائد السمك تُدار بطريقة أفضل. وهذا يتناقض بشدّة مع نتائج دراسات أخرى عديدة، تفيد بأن الصيادين قد تمكّنوا بالفعل من اصطياد 80-96٪ من المنتَج العالمي المتوقع11,12.
خيارات المخزون
إذن، لماذا تعطي التحليلات باستخدام بيانات الصيد ـ كممثّل لوفرة السمك ـ نتائج تطرحها الدراسات الأخرى كسؤال؟تكمن الصعوبة الرئيسة في أن تناقص كميّة الصيد ـ مقارنةً بالأرقام المسجلة سابقًا ـ لا تعني بالضرورة أعدادًا أقل من السمك، والعكس بالعكس. فعلى سبيل المثال.. من الممكن أن يبدو 34 نوعًا من المخزونات الكبيرة على امتداد الساحل الغربي لولايتي أوريجون وواشنطن في الولايات المتحدة وكأنها قد انهارت، بناءً على بيانات الصيد الأخيرة13، ولكنّ الحقيقة هي أنّ ثلاثة أنواع فقط ـ وفقًا لتقييمات المخزون التفصيلية ـ (البلم «الأنشوفة»، واليلقون أو سمك الشمع، والصفيلح) هي التي انهارت فعلًا13.
يمكن لكميات الصيد أن تتغير بشكل هائل لعدة أسباب. فعلى سبيل المثال.. مالت الكميات التي تم اصطيادها من المخزونات على طول الساحل الغربي للولايات المتحدة إلى التناقص، بسبب الأسواق، أو بسبب صدور لوائح جديدة للصيد (انظر: «ما هو حجم الصيد؟»). كما يعتبر التغيّر في التصنيف سببًا آخر. ففي خمسينات القرن العشرين، تمّ تصنيف سمك القرش الذي تم اصطياده في جميع أنحاء العالم ضمن سبع مجموعات تصنيفية. وفي أوائل العقد الأول من القرن الحالي، تم اعتماد 36 مجموعة في قاعدة بيانات الصيد الخاصة بمنظمة الأغذية والزراعة. وربما تكون أعداد سمك القرش التي تم اصطيادها، والتي كانت مُصنّفة في المجموعات الأولى، قد تضاءلت، لا بسبب تناقص أعداد سمك القرش التي يتم اصطيادها، بل بسبب تسجيلها ضمن مجموعات مختلفة.
ويمكن أيضا لبيانات الكميّات التي تم صيدها أن تتأثر بتعديلات القوانين الوطنية، مثل توسيع حقوق الصيد الوطنية في معظم الدول إلى امتداد 200 ميل في المحيط في سبعينات وثمانينات القرن العشرين؛ والكوارث الطبيعية، مثل تسرب النفط من الناقلة إكسون فالديز Exxon Valdez، الذي سبّب إغلاق عديد من مصائد سمك السلمون في ألاسكا لمدة عام كامل؛ والحرب الأهلية، وارتفاع تكاليف الوقود، وانخفاض أسعار السمك. وتعتبر تغيّرات أنظمة الحكم أيضًا عاملًا مساهمًا كذلك.. فبعد تفكّك الاتحاد السوفيتي في عام 1991، كانت النتيجة العمليّة لفقدان الدعم الحكومي هي عدم التمكّن من تشغيل الآلاف من سفن الصيد.
إضافة إلى ذلك.. هناك عدد قليل من البلدان التي تراقب أيّ شيء بالصرامة ذاتها المتّبعة في الولايات المتحدة وداخل الاتحاد الأوروبي، إلا أكبر أو أهم مصائد السمك لديها من الناحية الاقتصادية. وفي معظم الحالات، يقوم المسؤولون ببساطة بتقديم أفضل تقديراتهم. حتى في الولايات المتحدة، حيث تخصّص الحكومة الفيدرالية حوالي 880 مليون دولار سنويًّا لوكالات مصائد السمك، يصعُب الحصول على بيانات صيد موثوقة للمخزونات صغيرة الحجم، مثل كلب السمك الشوكي.
إدارة أفضل
إن التحليلات التي تعتمد ـ إلى حدٍّ كبير ـ على بيانات الصيد تعمل على تدعيم وجهة نظر عدد كبير جدًّا من المنظمات غير الحكومية وناشطي حماية البيئة الذين يرون أن الحلّ الوحيد لحفظ البيئة البحرية هو فرض حظْرٍ على الصيد في مناطق واسعة. فبين عامي 2007 و2009 ـ على سبيل المثال ـ أنفقت عدة منظمات غير حكومية ومؤسسات أمريكية 58 مليون دولار سنويًّا على الجهود المبذولة لخلق «مناطق بحرية محمية». وكانت هذه الحملة ناجحة بشكل مذهل في أستراليا، حيث يوجد حاليًا الآن 31 مليون كيلومتر مربع من المحيط مغلقة في وجه الصيد.هذا النهج يتغاضى عن النجاحات الهائلة لكثير من الاستراتيجيات الإدارية. فمثلًا، على الساحل الشرقي للولايات المتحدة ازداد إجمالي الموجود من سمك القاع، مثل السمك الأحمر، وسمك الحدوق، إلى أكثر من خمسة أضعافه بين عامي 1995 و2007 بعد تعزيز القيود على الصيد، ابتداءً من منتصف التسعينات. وإذا كانت بيانات الصيد الصادرة عن منظمة الأغذية والزراعة هي المصدر الوحيد لبيانات مصائد السمك، فإن علوم مصائد السمك ستحلّق معصوبة العينين، لكن التقييمات العلمية لاتجاهات وفرة السمك على مدى ثلاثة أو أربعة عقود عن مصائد السمك ـ التي تشكّل %40 من إجمالي عدد السمك الذي تم صيده في قاعدة بيانات منظمة الأغذية والزراعة العالمية ـ قد أصبحت الآن متاحة. هذه البيانات تأتي في معظمها من دول متقدمة (أمريكا الشمالية، وأوروبا، وأستراليا)، أو من المصائد الدولية الرئيسة، مثل مصائد سمك التونة.
إنّ البيانات المختلفة التي تجمعها الوكالات الوطنية لمصائد السمك، وشركات الصيد البحري، وعلماء البحار متاحةٌ أيضًا لبقية العالم. وحاليًا، لا توجد قاعدة بيانات عالمية لهذه المعلومات. ولقد بدأنا نحن (الكُتّاب) مؤخّرًا بالعمل مع أكثر من 20 دولة، ومنظمة الأغذية والزراعة، والبنك الدولي، في محاولة لتجميع قاعدة بيانات لعيّنة جيّدة من مصائد السمك في العالم. ونقدّر أن الحصول على هذا النوع من البيانات اللازمة لـ40 دولة (مع التركيز على 6-8 من مصائد السمك في كل بلد) سوف يستغرق 10 أعوام، ويتطّلب 20 مليون دولار أمريكي.
في الوقت نفسه، فإننا نحثّ الباحثين على استخدام كل البيانات المتاحة، إضافةً إلى قاعدة بيانات منظمة الأغذية والزراعة، والتحقّق من صحّة النتائج التي سيتوصلون إليها، عن طريق استشارة الخبراء المحلّيين، أو سواهم من مصادر البيانات. إن بيانات الصيد تشكل جزءًا حاسمًا من تقييم أيٍّ من مصائد السمك، ومن المستحيل حساب الوزن الأقصى للسمك الذي يمكن اصطياده على نحو مستدام، دون معرفة ما الذي يتم اصطياده كل عام، لكن بيانات الصيد ـ في حدّ ذاتها ـ لا يمكنها الإجابة على السؤال المركزي في علوم مصائد السمك، المتمثل في: ما هو عدد السمك في البحر؟
إرسال تعليق Blogger Facebook