6/08/2014 -
الحب

من أجمل ما كتب الإمام الشيخ محى الدين بن العربى
إعلم أن الحب على ثلاث مراتب: إلهي وروحاني وطبيعي ، فالحب الإلهي هو حب الله لنا ، وحبنا الله أيضاً قد يطلق عليه أنه حب إلهي ، والحب الروحاني هو الذي يسعى به في مرضاة المحبوب ، لا يبقى له مع محبوبه غرض ولا إرادة ، والحب الطبيعي هو الذي يطلب به نيل جميع اغراضه ، سواء سر ذلك المحبوب أ و لم يسره ، وعلى هذا أكتر حب الناس اليوم.
وأعلم أن نسبة الحب إلى الله تعالى ، فالحب المنسوب إلينا من حيث ما تعطيه حقيقتنا ينقسم: قسم يقال فيه حب روحاني ، والأخر حب طبيعي ، وحبنا الله تعالى بالحبين معاً.
المرتبة الأولى: الحب الطبيعي:
الحب الطبيعي نوعان: طبيعي وعنصري ، والحب الطبيعي هو العام ، فإن كل المحبين قابلون للصور الطبيعية على ما تعطيه حقائقهم ، فأتصفوا في حبهم بما تتصف به الصور الطبيعية ، من الوجد والشوق والاشتياق وحب اللقاء بالمحبوب ورؤيته والاتصال به، وقد وردت أخبار كثيرة صحاح في ذلك ، يجب الأيمان بها مثل قوله ( من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ) مع كونه مازال في عينه ، ولا يصح أن يزول عن عينه ، ووصف نفسه بالشوق إلى عباده ، وأعلم أن الحب الطبيعي من ذاته إذا قام بالمحب ، أن لا يحب المحبوب إلا لما فيه من النعيم به واللذة ، فيحبه لنفسه لا لعين المحبوب ، وهذه الحقيقة سارية فى الحب الإلهي والروحاني ، وأما بدء الحب الطبيعي فما هو للإنعام والإحسان ، فإن الطبع لا يعرف ذلك جملة واحدة ، وإنما يحب الأشياء لذاته خاصة ، فيريد الاتصال بها والدنو منها ، وهذه غريزة موجودة فى الانسان والحيوان سواء ، فاتصاله اتصال محسوس فهذا هو غاية الحب الطبيعي ، فالمحبوب هو الاتصال بموجود ما من كثيرين أو قليلين ، ومع كونه مؤانسة ومجالسة وتقبيلاً وعناقاً وغير ذلك بحسب ما تقتضيه حقيقة الموجود فيه فهو عين المحبوب وبحسب حقيقة الحب ، فالمحبوب واحد العين متنوع ، وهو حب الاتصال خاصة ، إما بحديث أو ضم أو تقبيل.
وأما القسم الثاني وهو الحب العنصري:
فهو وإن كان طبيعياً فبين القسمين فارق ، وذلك أن الطبيعي لا يتقيد بصورة طبيعية دون صورة طبيعية ، وهو مع كل صورة كما هو مع الأخرى في الحب ، مثل الكهرباء مع ما يتعلق بها ومسكه بالخاصية ، وأما العنصري فهو الذي يتقيد بصورة طبيعية وحدها ، كقيس وليلى ، وقيس ولبنى ، ولا يكون هذا الا لعموم المناسبة بينهما كمغناطيس الحديد.
فالحب الطبيعي هو حب العوام ، وغايته الاتحاد في الروح الحيواني ، فتكون روح كل واحد منهما روحاً لصاحبه بطريق الالتذاذ وإثارة الشهوة ، ونهايته في الفعل النكاح ، فإن شهوة الحب تسري في جميع المزاج ، سريان الماء في الصوفة ، بل سريان اللون في المتلون.
أثر الحب الطبيعي:
فعل الحب في صورة المحبوب أن يعظم شخصها ، حتى يضيق محل الخيال عنها فيما يخيل إليه ، فتثمر تلك العظمة والكبر التي في تلك الصورة نحولاً في بدن المحب ، فلهذا تنحل أجساد المحبين ، فإن مواد الغذاء تنصرف إليها فتعظم ، وتقل عن البدن فينحل ، فإن حرقة الشوق تحرقه ، فلا يبقى للبدن ما يتغذي به ، وفي ذلك الاحتراق نمو صورة المحبوب في الخيال ، فإن ذلك أكلها ، ثم إن القوة المصورة تكسو تلك الصورة في الخيال حسناً فائقاً وجمالاً ، يتغير لذلك الحسن صورة المحب الظاهرة ، ثم إن قوة الحب في المحب تجعله يحب لقاء محبوبه ، ويجبن عند لقائه لأنه يرى في نفسه قوة للقائه ، ولهذا يُغشى على المحب إذا لقى المحبوب ويصعق ، ثم إن قوة الحب الطبيعي تشجع المحب بين يدي محبوبه له لا عليه.
ومن الحب الطبيعي أن تلتبس تلك الصورة في خياله ، فتلتصق بصورة نفسه المتخيله له ، وإذا تقاربت الصورتان في خياله تقارباً مفرطاً يطلبه المحب في خياله فلا يتصوره ، ويضيع ولا ينضبط له ، للقرب المفرط ، فيأخذه لذلك خيال وحيرة مثل ما يأخذ نم فقد محبوبه ، وهذا هو الاشتياق ، والشوق من البعد ، والاشتياق من القرب المفرط .
المرتبة الثانية: الحب الروحاني النفسي:
الحب الروحاني النفسي غايته التشبه بالمحبوب ، مع القيام بحق المحبوب ومعرفة قدره ، وكما أن الحب الطبيعي خاضع للحد والمقدار والشكل ، فإن الحب الروحاني خارج عن الحد ، وبعيد عن المقدار والشكل ، وذلك أن القوى الروحانية لها التفات نسبي ، فمتى عمت النسب في الالتفات بين المحب والمحبوب ، عن نظر أو سماع أو علم ، كان ذلك الحب ، فإن نقص ولم تستوف النسب لم يكن حباً ، ومعنى النسب : أن الأرواح التي من شأنها أن تهب وتعطي متوجهة على الأرواح التي من شأنها أن تأخذ وتمسك ، وتلك تتألم بعدم القبول ، وهذه تتأم بعدم الفيض ، وإن كان لا ينعدم ، إلا أن كونه لم تكمل شروط الاستعداد والزمان ، سمى ذلك الروح القابل عدم الفيض ، وإن كان لا ينعدم ، إلا أن كونه لم تكمل شروط الاستعداد والزمان ، سمي ذلك الروح القابل عدم فيض ، وليس بصحيح ، فكل واحد من الروحين مستفرغ الطاقة في حب الأخر ، فمثل هذا الحب إذا تمكن من الحبيبين ، لم يشك المحب فرقة محبوبه.
والحب الروحاني هو الحب الجامع في المحب أن يحب محبوبه لمحبوبه ولنفسه ، إذ كان الحب الطبيعي لا يحب المحبوب إلا لأجل نفسه ، فأعلم أن الحب الروحاني إذا كان المحب موصوفاً بالعقل والعلم ، كان بعقله حكيماً ، وبحكمته عليماً ، فرتب الأمور ترتيب الحكمه ، ولم يتعد بها منازلها ، فعلم إذا أحب ما هو الحب ؟ وما معنى المحب؟ وما حقيقة المحبوب؟ وما يريد المحبوب؟ وهل لمحبوبه إرادة واختيار ، فيحب ما يحب المحبوب؟ أم لا إرادة له فلا يحبه إلا لنفسه؟
فعلى الحقيقة لا يحب أحد محبوباً لنفس المحبوب وإنما يحبه لنفسه ، هذا هو التحقيق ، فإن المعدوم لا يتصف يالإرادة فيحبه المحب له ، ويترك إرادته لإرادة محبوبه ، ولما لم يكن الأمر في نفسه على هذا ، لم يبق إلا أن حبه لنفسه ، فافهم فهذا من الحب الروحاني المجرد عن الصورة الطبيعية ، فإن تَلّبس بها وظهر فيها كما قلنا في الحب الإلهي ، وهو في الروحاني أقرب نسبة ، لأنه على كل حال صورة من صور العالم ، وإن كان فوق الطبيعة ، فاعلم أنه إذا قبل الروح الصورة الطبيعية في الأجساد المتخيلة ، لا في الأجسام المحسوسة التي جرت العادة بإدراكها ، فإن الاجساد المتخيلة أيضاً معتادة الإدراك ، ولكن ما كل من يشهدها يفرق بينها وبين الأجسام الحقيقية عندهم ، فإذا تجلى الروح في صورة طبيعية مشى الحكم عليها كما سنذكره في الحب الإلهي ، سواء من حيث قبول تلك الصورة للظاهر والباطن ، فيجمع بين الحب الطبيعي والروحاني ، وبين الحب لنفسه ولمحبوبه ، إن كان محبوبه ذا إرادة.
المرتبة الثالثة: الحب الإلهي:
الحب الإلهي هو حب الله العبد وحب العبد ربه ، كما قال تعالى :] يحبه ويحبونه [ونهايته من الطرفين أن يشاحد العبد كونه مظهراً للحق ، وهو لذلك الحق الظاهر كالروح للجسم ، باطنه غيب فيه لا يُدرك أبداً ، ولا يشهده إلا محب ، وأن يكون الحق مظهراً للعبد ، فيتصف بما يتصف به العبد من الحدود والمقادير والأعراض ، ويشاهد هذا العبد ، وحينئذ يكون محبوباً للحق.
فحب الله تعالى هو أن يحبنا لنا ولنفسه ، وهو قوله: ) وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون (فما خلقنا إلا لنفسه ، وأما حبه إيانا لنا ، فلما عرفنا به من الأعمال التي تؤدينا إلى سعادتنا ، ونجاتنا من الأمور التي لا توافق أغراضنا ، ولا تلائم طباعنا.
وأما حبنا الله تعالى المسمى بالحب الإلهي ، فهو حبنا الله تعالى بالحبين الطبيعي والروحاني معاً ، وهي مسألة صعبة التصور ، إذ ما كل نفس ترزق العلم يالأمور على ما هي عليه ، ولا ترزق الإيمان بها على وفق ما جاء من الله في إخباره عنه.
وما بقي لنا بعد التقسيم في حبنا إياه إلا أربعة أقسام ، وهي : إما أن نحبه له ، أو نحبه لأنفسنا ، أو نحبه للمجموع ، أو نحبه ولا لواحد مما ذكرنا ، وهنا يحدث نظر آخر ، وهو لماذا نحبه ؟ إذ وقد ثبت أنّا نحبه فلا نحبه له ولا لأنفسنا ولا للمجموع ، فما هو هذا الأمر الرابع ؟ هذا فصل ، وثَمْ تقسيم أخر ، وهو وإن أحببناه ، فهل نحبه بنا أو نحبه به ، أو نحبه بالمجموع ، أو نحبه ولا بشيء مما ذكرناه؟ وهل لهذا الحب غاية فيه ينتهي إليها أم لا ؟ فإن كانت له غاية فما تلك الغاية ؟
فمنا من أحب الله تعالى له ، ومنا من يحبه لنفسه ، ومنا من يحبه للمجموع وهو أتم في المحبة لأنه أتم في المعرفة بالله والشهود ، لأن منا من عرفه في الشهود فأحبه للمجموع، ومنا من عرفه لا في الشهود ولكن في الخبر فأحبه له ، ومنا من عرفه في النعم فأحبه لنفسه ، ومنا من أحبه للمجموع ، وذلك أن الشهود لا يكون إلا في صورة ، والصورة مركبه والمحب في صورة مركبة ، فيسمع من وجه فيحبه للخبر مثل قوله على لسان نبيه r( هل واليت لي ولياً أو عاديت فيْ عدواً ) فإذا أحببت الأشياء من أجله ، فهذا معنى حبنا له ، ليس غير ذلك ، فقمنا بجميع ما يحبه من أن نقوم به عن طيب نفس ، ويكون من لا يشاهده في صورتي في حكم التبع ، كما هي الجوارح منا وحيوانتنا بحكم النفس الناطقة لا تقدر على مخالفتها لأنها كالألات لها ، تصرفها كيف تريد في مرضاة الله وفي غير مرضاته وكل جزء من جوارح الإنسان إذا ترك بالنظر إلى نفسه لا يتمكن له أن ينصرف إلا فيما يرضي الله ، فإنه له ، وجميع ما في الوجود بهذه المثابة إلا الثقلان ، وهو قوله : ) وإن من شيء إلا يسبح بحمده (يريد بذلك التسبيح الثناء على الله لا للجزاء ، لأنه في عبادة ذاتية لا يتصور معها طلب مجازاة ، فهذا من حبنا له سبحانه ، إلا بعض النفوس الناطقة ، لما جعل لها معرفة الله القوة المفكرة ، لم تفطر على العلم بالله ، بل كانت تحب الأسباب ، ثم اهتدت بواسـطة الفكر إلى موجد الأسباب ، فأنتقل تعلق الحب في السبب الموجد للأسباب ، وقالت النفس : هو أولى بي أن أحبه ، ولكن لا أعلم ما يرضيه حتى أعامله به ، فحصل عندها حبه لما أنعم عليها من وجودها ووجود ما يلائمها ، وهنا وقفت غافلة ناسية إقرارها بربوبية موجدها في قبضة الذر ، فينما هي كذلك إذ جاءها داع من خارج من جنسها ، ادعى أنه رسول من عند هذا الذي أوجدها ، فقالت له : أنت مثلي وأخاف أن لا تكون صادقاً ، فهل عندك من يصدقك فإن لي قوة مفكرة بها توصلت إلى معرفة موجدي ؟ فقام لها بدليل يصدقه في دعواه ، ففكرت فيه إلى أن ثبت صدقه عندها ، فامنت به ، فعرّفها أن ذلك الموجود الذي أوجدها كان قد قبض عليها ، وأشهدها على نفسها بربوبيته وأنها شهدت له بذلك ، فرسم لها ما شرع ، فقامت بذلك شكراً ، وذكر لها ما لها في ذلك من الثواب وما عليها إن خالفت من العقاب ، فبادرت هذه النفس الزكيه لمراضيه في ذلك.

فعلامة الحب الإلهي حب جميع الكائنات في كل حضرة ، معنوية أو حسية أو خيالية أو متخيلة ، ولكل حضرة عين من اسمه النور تنظر بها إلى اسمه الجميل ، فيكسوها ذلك النور حلة وجود ، فكل محب ما أحب سوى نفسه ، ولهذا وصف الحق نفسه بأنه يحب المظاهر ، والمظاهر عدم في عين ، وتعلق المحبة بما ظهر وهو الظاهر فيها ، فتلك النسبة بين الظاهر والمظاهر هي الحب ، ومتعلق الحب إنما هو العدم  ، فمتعلقها هنا الدوام ، والدوام ما وقع فإنه لا نهاية له ، ومالا نهاية له لا يتصف بالوقوع.

إرسال تعليق Blogger

 
Top